يقرر د. محمود علي مكي وظيفة المدائح النبوية بجانب أنها ابتهالات ومناجيات ذاتية، فيقول: إن المدائح النبوية لم تكن مجرد ابتهالات ومناجيات، وإنما كانت توظف أيضا في تصور واقع المسلمين، والاهتمام بقضاياهم، والدعوة إلى إصلاح أحوالهم.
لم تكن طبيعة العلاقة بين الدين والشعر مهتزة؛ بل كانت علاقة وثيقة فـ " الشعر بما له من مكانة قوية استطاع أن يخدم الدين في ظروف كثيرة، ويمكن له أن ينشر أهدافه "، " ثم إن القرآن والحديث كانا الباعث الحافز إلى وضع كثير من العلوم، في صدارتها العلوم الأدبية واللغوية " ولعلّ كثيراً من الدراسات الأدبية قد توقفت أمام التيار الإسلامي، وكيف استطاع توجيه حركة القصيدة العربية على سبيل التوظيف من أجل الدفاع عن قضايا الدين أو تبني الدعاية له، أو الانتصار لقيمه ومبائه ". وفي مقدمة الشعر الديني المديح النبوي والتسبيح بحمد الله والثناء عليه تعظيما وإجلالا ومهابة.
واستنادا إلى ما سبق فإن قصيدة أسماء الله الحسنى أو عطاء السماء في معاني الأسماء للشاعر أحمد مرسي تنبع من دافعين اثنين: أولهما دافع ديني صوفي يشي بمكنون الضمير الإنساني الذائب في حب الله تبارك وتعالى، ذلك الحب الذي فرضته سلطة الضمير وهيمنته على وجدان الشاعر أحمد مرسي ففاض هذا الحب نغما على لسانه. وثانيهما محاولة إثبات القدرة الشعرية لذات غرقت محبة وذابت هياما في جلال ومهابة. وفي ذلك الإطار يجدر بنا أن ننظر في نص المديح الإلهي نظرة تختلف عن نظرتنا إلى المدائح النبوية المتعارف عليها لدى الشعراء المادحين، هنا لا حدود للغلو، والإطراء والتوسل فالباب واسع على مصراعيه، لا يقيده غير التجسيد والوصف، ولله المثل الأعلى.
فإذا كان العنوان نص صراحة على أسماء الله الحسنى فإن الشاعر لم يند عن قول الله تعالى: " وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (180) الأعراف. وفي الحديث الشريف عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن لله تسعة وتسعين اسمًا،مائة إلا واحدًا، من أحصاها كُلَّها دخل الجنة "
ومن هنا قدم الشاعر أحمد مرسي ديوانا كاملا في أسماء الله الحسنى، بدأه باللوم والتقريع بسبب ذات ذائبة هائمة في ملكوت ربها، عاشقة لصفاته وأسمائه جل في علاه، وهذه البداية الحرى تتكئ على مادتين اثنتين: الأولى هي اللوم والأخرى هي العشق، أما اللوم فقد جاء مسبوقا برابط أسلوبي ظاهر وقارع للأذن(يا لائمي) وهو موجه لمن يلوم عاشقا فيمن عشق، وجاءت عبارات اللوم قارعة لكل من تسول له نفسه في التهكم على أسمائه عز وجل فنجد نبرة التقريع تزداد عند مرسي ازديادا لافتا (فاخسأ عنين الرجا يا عابد الصنم) ثم يتساءل: أين الجميع فمن يحتج ينهزم .. وعندما يتوجه بالخطاب إلى ذاته الضعيفة أمام قدرته تعالى مستمدا منها العون والقدرة الداخلية( يا قدرة الله سيري في دفيق دمي) أو قوله في ضعف ووهن باديين للعيان(ترفق بعظام الطاعن الهرم)
أما العشق فلا لوم عليه فيه؛ فجل شعراء المديح الهائمين في محبوبهم أدماهم العشق والهيام، فبدوا عاشقين والهين ذائبين في معشوقهم (شأن عشقي بالغ العظم) (أهيم بالله سرا مفعما علنا) (نور أضاء فؤاد العاشق النهم) (من يرتو الوجد صفوا ذاك مأمنه)
وكما بدأ المدحية بالعشق ختمها أيضا بالعشق في حركة دائرية محكمة مما يدل على تمكن العشق من قلب العاشق (لفظ الجلالة عشق الناسك الضرم) (فنعم ما كان من بدء ومختتم) وهذا التمكن من الحب هو نوع من طاعة العبد للرب لأن الله تعالى هو القوي المتين القادر قدم محبته للعبد الضعيف قليل الحيلة فقال " قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يحببكم الله " وقال عز من قال : " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ" البقرة آية (165) فالمحبة هنا حاصلة ودليل إيمان وقد أخبر بها الله تعالى للعبد كما ورد في كلام الله تبارك وتعالى. يقول الطوسي أن أهل المحبة في ثلاثة أحوال : الحال الأوّل هو محبّة العامة ، وهذا ناتج من إحسان الله إليهم وعطفه عليهم . والحال الثاني وهو يتوّلد من نظر القلب إلى غناء الله وجلاله وعظمته وعلمه وقدرته ، وهذا النوع من الحب يصل إليه الصّادقون والمتحقّقون . أما النوع الثالث من الحب فهو محبّة الصديقين والعارفين، تولدت من نظرهم ومعرفتهم بقديم حب الله تعالى بلا علة ، فكذلك أحبّوه بلا علة()
***
اثنان وعشرون ومائة بيت هي مجموع أبيات قصيدة أسماء الله الحسنى أو عطاء السماء في معاني الأسماء كما أراد لها الشاعر نفسه، تضمنت تسعة وتسعين اسما جليلا من أسماء الله الحسنى، أبدى الشاعر في قصيدته -جليلة القدر عظيمة الشأن- مشاعر عبد فقير إلى ربه العلي القدير على وزن البسيط، وقد راعى فيها الشاعر ترتيب الأسماء الجليلة كما وردت مبتدأ بالله الرحمن الرحيم الملك القدوس .. إلى الوارث الرشيد الصبور. وجاءت الأبيات متوالية متتابعة بوزن واحد وقافية واحدة، هي قافية الميم المكسورة.
التزم الشاعر في القصيدة الواحدة أو قل الديوان برمته؛ لأن القصيدة هي الديوان، والديوان هو القصيدة- الشكل التقليدي للقصيدة العمودية شكلا ومضمونا، فالأبيات تتوالى في وتيرة واحدة متخذة التعظيم والإجلال لله الواحد الأحد في تضرع وتوسل. وبينا تسير القصيدة على هذا النمط فإن الشاعر يعلن لك ضعف حاله، وسقم بدنه، وقلة حيلته أمام المحن، فيختلط بذلك الخاص بالعام، ويراوح بينهما صعودا للتجلي وهبوطا للتمنى.
سلمت لغة القصيدة/الديوان من الكلمات الغريبة والحوشية، وجاءت في معظمها سلسة طيعة، في متناول القارئ، ولم تند عن ذلك إلا في النزر اليسير من الكلمات التي ربما تضطرك إلى المعجم، ككلمة المرجاف في قوله:
البارئ الخلق من لا شيء موجده بركان إعجازه المرجاف بالحمم
والمرجاف: اسم آلة من رجف، مرسمة الزلزال، جهاز دقيق مرهف يسمح برصد الهزات الأرضية وتسجيلها، فنعرف أهميتها وقوتها، واتجاهها ومدتها.
وككلمة الطغم التي تعني أرذال الناس وأوغادهم، وهي الضعيف الرديء من كل شيء.
وكلمة شقمي، في قوله:
هزي إليك بجذع تغنمي شقمي إلهنا الله رب السر تعرفنا
والشقم هو جنس من التمر
أما باقي الألفاظ المستخدمة فقد جاءت للقارئ العادي دون مشقة تذكر، أو دون تغير.
وللشاعر في لغته طرائق طريفة فيستخدم (أل) للدخول على المضارع (يا أيها الملك ال نرجوه مغفرة ..) وأل هنا موصولة وليست للتعريف، وهو أسلوب مستخدم لدى القدماء
وأحيانا يستخدم (يا) النداء للدخول على اسم معرف بال، وهذا جائز مع لفظ الجلالة فنقول يا الله، ولا يجوز مع غيره، مع تحفظنا لخلاف النحاة حول الجواز والوجوب، فإن الشاعر استخدم يا النداء للدخول على الاسم المعرف بأل وهو اسم من أسماء الله الحسنى فوفق في ذلك كل التوفيق فقال(فيا الجليل بعثت الأنبياء هدى..) وأحيانا يستخدم أل للدخول على الفعل الماضي (يا نعم من عاصم في قلب معتصم..)
وسرت في أمشاج النص للشاعر أحمد مرسي روح الحلاج وغيره من المتصوفة المشهورين كتكرار لبعض الكلمات مزدوجة النطق كالعبارات الصوفية الحلاجية: حال أحوالي، وعين عيني، كل كلي، بعض بعضي، بحر بحري لذا فجاءت العبارات المزدوجة عند شاعرنا .. خلق الخلق-روح الروح- سر السر- موت الموت-حلم الحلم –حد الحد..
نجا الشاعر أحمد مرسي من الغلو الذي وسم بعض قصائد المديح، لكنه لم ينج من التأثر بالبوصيري وشوقي في بردتيهما الشهرتين، فامتطى البحر البسيط وقافية الميم المكسورة، مما جعل القوافي عنده قريبة قربا مباشرا مع البردة ونهجها، وربما بعض المسكوكات اللغوية التي جرت سيرورتها مجرى الأمثال وإن لم تكن أمثالا بالمعنى القياسي، وهي تسريبات عفوية تأثر بها الشاعر نتيجة الإعجاب والدهشة الممتلئ بهما الذهن قبل الشروع في عملية الكتابة كثنائية اللذة والألم عند البوصيري ومرسي
والحب يعترض اللذات بالألم (البوصيري)
طوبى لمن كبل اللذات بالألم (مرسي)
أو النداء للائم:
يــا لائِمي في الهوى العُذْرِيِّ مَعـذرَةً (البوصيري)
يا لائمي شأن عشقي بالغ العظم (مرسي)
أو ثنائية السم والدسم:
كَـم حسَّــنَتْ لَـذَّةً للمرءِ قاتِلَةً مِن حيثُ لم يَدْرِ أَنَّ السُّمَّ في الدَّسَـمِ (البوصيري)
... عين ترى السم غنما في هوى الدسم (مرسي)
أو ثنائية عاد وإرم:
لم تَقتَرِن بزمـــانٍ وَهْيَ تُخبِرُنــا عَنِ المَعَـــادِ وعَن عـادٍ وعَن اِرَمِ (البوصيري)
"القادر" انساق إذعان الوجود له في القول والفعل من عاد ومن إرم (مرسي)
مثل هذه المسكوكات اللغوية أو التراكيب اللغوية نجح الشاعر في فكها وإعادة تركيبها مرة أخرى في تراكيب جديدة، لكنها تحمل ما تحمل من التأثير المباشر في النص ككل.


Post A Comment: