صباح عيد الأضحى، كنت على موعد مع صوت حنان بكير يقطع البحار والمحيطات والقارات ويفتح كوة في جدار السجن، يأتي كنسمة صيف منعشة ليقول لك بكل حنان ورقة الأرض: كل عام وأنت بخير.
كنت لتوي عائداً من ساحة السجن إلى غرفتي بعد تبادل التهاني وعبارات المعايدة مع عشرات الأسرى منذ الصباح الباكر، أستلقي فوق برشي، وكان الرفاق قد شرعوا بمعايدة أهاليهم على الهاتف واحداً تلو الآخر، أسمع صوت أحد الرفاق يهتف باسمي: "ثمة من يطلبك على الهاتف".
توقعت واحداً من الأهل أو الأصدقاء غير أنني دهشت وأنا أتأمل الرقم على الشاشة كان رقماً دولياً، أضع السماعة فوق أذني وإذا بصوت حنان ينسكب كشلال موسيقى في أذني. إنها حنان بكير، عكاوية الأصل والمشردة عن وطنها منذ النكبة. والكاتبة المعروفة والمقيمة في النرويج منذ أكثر من عشرين عاماً. وها هي تهاتفني لتهنئني وكافة الأسرى بالعيد. تأثرت كثيراً بهذه المبادرة، وربما كانت هذه التهنئة هي أسعد ما تلقيته طوال سنوات أسري الثمانية عشرة.
نتبادل عبارات المعايدة بانفعال جميل وبمشاعر جياشة، وما إن تنتهي المكالمة حتى تداهمني موجات شاسعة من الفرح والسعادة لم أحسها من قبل. كيف أمكن لامرأة ببضع كلمات أن تذيب جبلاً من الغصة والألم الذي راكمته سنوات الحرمان من الأهل والأحبة؟
قبل عام وأثناء حفل إطلاق روايتي "مريم/ مريام" حضر شقيقي كمال إلى جانب صديقي العزيز حسن عبادي وزوجته الرائعة سميرة حفل إطلاق الرواية في معرض الكتاب في العاصمة الأردنية عمان في أيلول الماضي، وهناك التقوا بالكاتبة المميزة حنان بكير(صديقة حسن وعائلته)، والتي حصلت على نسخة من الرواية وأرسلت لي ولعموم الأسرى تحياتها الحارة وتمنت لنا حرية قريبة.
حنان التي دأبتُ على متابعة أخبارها وكتاباتها ومقابلاتها الصحفية. رأيتها في كتابات صديقي الشاعر فراس حج محمد الذي يكن لها احتراماً كبيراً. ولطالما جهدت لإدخال كتبها إلى السجن . بيد أن هذه المحاولات تعثرت بسبب انقطاع الزيارات منذ انفجار أزمة الكورونا.
قبل العيد بأيام يفاجئني حسن كما هي عادته:
- ثمة سلام لك من مكان بعيد.
- من؟
- حنان باكير تهديك سلاماتها وتحياتها.
تأثرت لهذه اللفتة وقلت لحسن إن من الواجب أن أهاتفها من السجن لأشكرها وأطمئن على أحوالها، وهذا ما حصل. لم تتمالك نفسها حين سمعت صوتي وأنا أهاتفها من السجن. كانت سعيدة وغمرتني يومها بسيل من المشاعر الدافئة والصادقة. مكالمة هاتفية لبضع دقائق كان من شأنها أن تجعل حنان تفيض سعادة وتجعلني أتدفق بالأمل والبهجة. ولم تمض سوى ساعة حتى هاتفني حسن:
- يا رجل ما الذي فعلته بحنان؟
- ما الأمر؟
- أرسلت لي رسالة صوتية وكانت في أشد حالات انفعالاتها وكانت تبكي فرحاً لأن صوتك ذكّرها بابنها الذي استشهد في الحرب الأهلية اللبنانية.
أربكني حسن ولم أجد ما أرد به عليه. فقد تصادف أن كانت ولادتي في ذات العام الذي ولد فيه ابنها الشهيد. وظللت تحت وقع هذا الارتباك إلى أن جاءني صوتها صباح يوم العيد لتبدد عني هذا الارتباك ولتزيد من احترامي لهذه المرأة النبيلة التي لم تنتظر أن أهاتفها لمعايدتها بل هي بادرت، وكانت هذه اللفتة تنم عن موقف إنساني ووطني عظيم تتمتع به هذه الكاتبة والمثقفة والمناضلة.
تعددت مهاتفاتنا بعدها. قالت لي ذات مرة سأريك جمال الطبيعة في تلك البلاد حددنا موعداً، طالعتني بعد أيام صورة البحر ووجه حنان الذي كان يومها مشرقاً بالسعادة والفرح والارتباك الجميل. يأتي بعض الرفاق لمشاركتي المشهد، تسمعنا صوت زقزقة النوارس وترينا الطيور الجميلة التي كانت تسبح قرب الشاطئ. كانت حنان بهذه الحركة البسيطة من أقاصي الدنيا، تعلن أن الغربة والشتات وجدران السجون لن تمنعنا من صناعة لحظات من الفرح وأن فلسطين واحدة يلتقي أبناؤها ولو في لحظة في الأثير رغماً عن أنف الزمن .
انقطع المشهد بعد دقائق. حاولت مراراً معاودة الاتصال دون جدوى. فهاتفت حسن الذي استيقظ من قيلولته فحاول تعويضي عن انقطاع المشهد، بأن أراني من شرفته بحر حيفا. فصهل القلب عشقاً. يأتيني صوت حسن في اليوم التالي ليفك لغز انقطاع الاتصال مع حنان:
- كانت تحاول أن تستل من حقيبتها بعض الأطعمة الخاصة بطيور الشاطئ ونوارسه، وفي هذه الأثناء سقط الهاتف من يدها واستقر في قاع البحر.
أسفت لهذا الخبر وتطيرت قليلاً، تبادلت مع حسن عبارات السخرية من الموقف، وحالما انتهت المكالمة خطر بذهني مفارقة سقوط الهاتف من يد حنان في ذات اليوم الذي سقطت فيه دولة عربية أخرى في هاوية التخاذل والخيانة الرسمية العربية. ابتسمت بألم للمفارقة، ولم تسعفني لحظتها سوى بلاغة الصمت.
لا عجب أن يسقط هاتفك في البحر يا حنان في ذلك اليوم الأسود. تطاول العربان في بنيانهم لكنهم تقزموا أكثر من السابق ، وتباهوا ببناء أعلى برج في العالم ليسقطوا في الدرك الأسفل وتحققت معجزة تساوي القمة بالهاوية. وتساوي الرأس مع المؤخّرة، ويا له من زمن عربي فضائحي .
قد سقط الهاتف منتحراً ومحتجاً وغاضباً. إذ كيف يمكن أن يتسنى له أن يصور مشهد فرح في ذلك اليوم التعيس. حتى الهواتف يا حنان انتحرت وأحجمت عن رسم صورة مشرقة على خلفية قاتمة. ربما كان للهواتف وعي وإرادة وذكاء وكرامة وإحساس أكثر من بعض البشر.
سأقفز عن هذا المشهد بمفارقاته وسأريك بدوري مشهداً من أرض الوطن. فأنا لم أقل لك يا عزيزتي أنني وقبل أسبوع كنت على موعد مع نسائم جبل الكرمل وأدغاله وأشجاره الساحرة الخلابة. كنت قد استدعيت للتحقيق مع اثنين من رفاقي إلى سجن الجلمة المزروع كنصل سكين في خاصرة الكرمل، كانت الرحلة مرهقة، إذ كان يتعين علينا قطع المسافة من أقصى جنوب فلسطين إلى أقصى شمالها مكبلي الأيدي والأرجل.
وآه لو تدري يا حنان كيف كنا نتأمل الوطن طوال الطريق في غضون ثلاث ساعات. الوطن بتلاله وسهوله وبياراته كان أشبه بغزالة قد نهشتها الذئاب وما إن وصلنا إلى مشارف جبل الكرمل حتى خشعت قلوبنا حباً وإجلالاً. وفي ساحة سجن الجلمة حين هبطنا من السيارة مكبلين بأغلالنا الثقيلة ألقيت نظرة متفحصة ذلك الجمال المهيب قبل اقتيادنا للزنازين الباردة. خطر لحظتها بذهني حسن وسميرة المقيمان في حيفا وقلت في نفسي لن يتأخر حسن عن القدوم لزيارتي كما وخطرت أنتِ أيضاً بذهني، ولمع برأسي ما قاله درويش في أحد قصائده وكأنه يقول بك أنتِ:
سأهديها غزالًا ناعماً
كجناح أغنية
له أنف ككرملنا..
وأقدام كأنفاس الرياح، كخطو حرية
وعنقٌ طالعٌ كطلوع سنبلنا
من الوادي.. إلى القمم السماويّة!
سلاماً يا وشاح الشمس، يا منديل جنتنا...
ويا قسم المحبة في أغانينا!
لخضرة أعين الأطفال.. ننسج ضوء رايتنا!
ويا حنان أعلم أن عكا تحتل كامل مساحة روحك. وأن فردوس المنافي لا يغنيك عن حبة رمل فيها. وكم نحن متشابهون لأننا متورطون بعشق بلادنا الأزلي. نعشق رائحة الأرض وزهورها وسمائها وتلالها وشواطئها، ولهذا كان عصياً على الغزاة اجتثاثها، وسيظل قدرنا أن نواصل حكاية البقاء. نعاني ونعذب ونشرد ونموت وتغلق علينا أبواب السجون ونطحن تحت رحى الزمن... ولكننا ننتصر في النهاية دائماً. فقدر بلادنا أن تظل تعرف هذا القدر من الغزاة وقدرهم أن يرحلوا دائماً. ويظل الكرمل شامخاً وشاهداً على بقاء أهله وتجذرهم في الأرض شاهداً على رحيل الغرباء منكسي الرؤوس والرايات.
اكتبي دائماً وسنواصل معاً رحلة الكتابة ونحن نخوض الاشتباك. لأن وطناً لا نكتب عنه، لا نستحق أن نعيش فوق ترابه. سنسترد الوطن كل يوم بقصيدة شعر وبرواية، وأهزوجة، وبحجر يقاوم وبندقية تقارع المحتل، لنورث أجيالنا هذا الحب والحنين إلى أن يأتي جيل يصنع المعجزة، ويحرر الوطن من سطوة الغاصبين.
فشتان بين ما كتبوه هم وما نكتبه نحن. هم كتبوا أسفاراً تروي ذبح الأشجار وجزر أعناق الزهور ونحن نكتب عنها لنحثها على مواصلة النمو. هم يكتبون عن الموت ونحن نكتب عن الحياة. اكتبي فنحن أبناء أرض الحكاية الأبجدية:
واصلي هذا الحنين، أيا حنان
سيجيء يوم وتقطفي أزهار نرجس أرضنا
وستجمعي أصداف ساحلها المكابر
وسيخسر الغازي الرهان
بأننا سنغط في النسيان
تغوينا المنافي بالبريق والجنان
فبلادنا... فردوسنا المفقود....
لن ننسى الرجوع إليه
مهما ازدادت العثرات
والنكبات في هذا الزمان
ويا حنان أسعدني صوتك القادم من بعيد، صوت فتح كوة شاسعة في جدار السجن السميك. لأطل من خلالها على بقعة ساحرة في هذا العالم. يهديك السلام كافة الشباب من حولي ونهدي من خلالك تحياتنا إلى أصدقاء شعبنا في العالم وإلى شعب النرويج ومحبي العدالة والحرية في هذا البلد. ولن ننسى وقفاتهم المشرفة معنا وإسناد نضالنا. كما ونبرق من خلالك تحياتنا للدكتور فيصل دراج الذي كان لكتاباته دورٌ مهمّ في حياتنا الثقافية في السجن.
وإلى أن يجمعنا لقاءٌ بكم جميعاً تحت شمس الحرية وعلى أرض الوطن لكم منا جميعاً أطيب التحيات وأصدق الأمنيات.
سجن ريمون الصحراوي



Post A Comment: