ــــــــــــــــــــ
4- الحريرة:

 لِأكثر من عشر سنوات، هي الأطوار الثلاثة الأولى من دراستي (ابتدائي- متوسّط- ثانويّ)، كنتُ تلميذًا بالمدرسة "الداخليّة"، حيث المَطعم والمَبِيتُ، ولا مُنصَرَف حتّى نهايةِ الأسبوع، وأحيانًا إلى العطلة أو ما يكون دُونها من إجازةٍ.. ما سمعنا خِلالَها مُدرّسًا أو مُربّيًا يستعمل كلمة "حريرة" إلّا في الكلام العامّيّ الدارج، أمّا عند التفاصُح فلم يكن يُقال إلّا "الحَساء"، إطلاقًا على ذلك "الشيء" الذي كان يُقَدّم لنا كلَّ عَشاء تقريبا، في ذلك الزمن المغلق من التسعينيّات، فنتجرّعه ولا نكاد نُسيغُه، حيث الجوع هو البَهار الذي لا يبقى معه أيّ طَبيخ. وإنّما "الحساء" في العربيّة نمط من الطعام ليس "الحريرة" إلّا أحد أنواعه  المتدرّجة حسب الخثورة والمكوّنات؛ وهي العصيدة ثُمّ النخيرة ثُمّ الحَريرة ثم الحَسو. حسبما رُوي عن ابن الأعرابي.. 
وإذن، "الحريرة" كلمة فصيحة، وقد وردت في تُراث العربية بمعانٍ ثلاثة:
1- الحَريرة من الثياب: واحدةُ الحَرير، أي القطعة منه. وقد وردت بهذا المعنى في الأحاديث النبويّة. 
2- وامرأة أو كبِد حَريرة، أو حرّى ومحرورة: أيْ حزينة، مُحرَقة حزنًا وكمَدا. ولعلّ منه قول أسامة بن مُنقذ:
   وما بَالُه يَلقَى البَرِيءُ من الضَّنَى ** حَريرَةَ ما يأتي المسيءُ من الذَّنْبِ
- أمّا "الحُرَيرة" بضمّ ففتح: فتصغير "الحَرّة" وهي الأرض المستوية الغليظة ذات الحجارة السُود كأنها محروقة. وهو اسم موضع بالحجاز، وبه يُسمّى أحَد أيّام العرب، وهو "يوم الحُرَيرة"؛  وقع فيه قتال شديد بين كنانة وقيس آخرَ الجاهليّة، وقد ذكره من الشعراء خداش بن زهير في قوله: 
 لقَدْ بَلَوْكُم فأبْلَوكمْ بَلاءَهُمُ ** يَوْمَ الحُرَيرةِ ضَرْبًا غيرَ تكذيبِ
3- حساء يُعمل من دقيق ودسم أو لبن. وفي لسان العرب: "الحَرِيرة من الدقيق، والخزيرة من النُّخال". وقد تواتر ذكرها مقترنًا بوفاة أبي بكر الصدّيق، فممّا ذكره المؤرّخون من أسباب وفاته أنه أكل من حَريرة بها سُمّ فمات بعد سنة من ذلك. 
وجاء لفظ "الحَريرة" على صيغة عديد المآكل عند أهل هذه اللُّغة، قال الثعالبيّ: "جُلّ أطعمة العرَب بل كلّها على الفَعِيلة وهي متقاربة الكيفيّة من الدقيق واللّبن والسمن والتمر؛ كالسخينة واللّويقة والربيكة والبكيلة..."  وكذلك أسماؤها حسب كلّ وَليمة؛ كالعقيقة والوضيمة والوكيرة.. 
واشتهرت قريش بأكل "السَّخِينة" عند سوء الحال وقلّة المال، حتّى كُنّيَت بها وعُيّرت، مثلما  جاء في قولة حسّان بن ثابت الشهيرة: 
 زعمَتْ "سَخِينةُ" أنْ ستَغلِبُ رَبَّها ** ولَيُغْلَبَنّ مُغالِبُ الغَلّابِ!
ومن هذا النوع من الطبِيخ: "التلْبِينة"، وهي حساء من دقيق الشعير بنُخالته مع الحليب، ويُحَلّى بالعسل، وسُمّيت تلبينة تشبيهًا لها باللّبن. وهي من الأطعمة الواردة في السيرة النبويّة.
    أمّا الحريرة كما هي معروفة حاليًّا في بلاد المغرب خاصّة فقد تطوّرت لتصبح ما هي عليه الآن من "غذاء كامل"، وهي حسْوَة حمراء يرجع أصلها إلى الأندلس. أوردها ابن زهر الأندلسي في "كتاب الأغذية": "الحريرة المتّخذة من الحنطة يكون عنها خلط غليظ نيّء، وحَريرةُ دقيق الشعير خير منها، وكذلك حريرة الذرة والبَنج". وذكرها ابن بطّوطة في رحلته حينما تعرّض لما سمّاه "الكُشَري" من مآكل أهل الهند فقال "وهو عندهم كالحَريرة في بلاد المغرب". كما جاءت في بعض أشعار لسان الدين ابن الخطيب، كقوله:
 ورُبّ صلاةٍ قُدّمَ النفلُ قبْلَها ** وتُشرَبُ من قَبلِ الثريدِ حَرِيرةْ.
 وأورد ابن رزين التجيبي صاحب "فضالة الخِوان في طيّبات الطعام والألوان" أنواع الأطعمة والمحلّيات وأسماءها التي انتقلت من الأندلس إلى بلاد المغرب، كالكسكس والمرمز والجشيشة.. ومن الأحساء والثرائد التي ذكرها ما يكاد يتطابق مع بعض أشكال تحضير الحريرة لدينا.
وتأتي الحريرة كأشهر الأطعمة التقليديّة الاحتفالية وأعرقها في المغرب والجزائر خاصّة، وتونس، وهي التي تتصدّر المائدة الرمضانيّة، حيث تُقدّم في بداية الوجبة كمحضر معمول من السميد أو طحين الشعير وخليط الخضروات والقطانيات والبهارات المتنوّعة تحت وصفة "راس الحانوت"، وقلّما تخلو الحريرة من قِطَع اللحم، وتُقرَن بالقارص واللاذع والحارّ من التوابل، مشفوعةً بالتمر، أو البوراك وما شاكله من الممَلّحات. وفي الجزائر  المتنوّعة؛ تختلف هذه الأكلة من منطقة إلى أخرى تحضيرًا وتسميَةً، دون أن تختلف رتبةً ووظيفة تحت أسماء: الشوربة، الفريك، الشعيريّة، المقطف، المرْمَز، الجاري، الدشيشة... فتقترب قليلًا أو كثيرا من خواصّ الوصفة المذكورة آنفًا.
   وعطفًا على ما أسلفناه من ارتباط هذا النوع من الطبيخ بسنين القحط والشدائد؛ يذكُر لنا آباؤنا وأجدادُنا –محلّيًّا فيما يروُون- سنةً شديدة يُسمّونها "عام الحريرة" ناحية الغرب والجنوب الوهراني، وفي بعض مناطق الوسط يقولون "عام الدشيشة"، وفقَ ثقافة كلّ جهة من البلاد، وهي سنة قحط ومجاعة أصابت أصقاعا واسعة من الجزائر، في 1945 تحت نير الاحتلال الفرنسيّ. حيث كانت "الحريرة" في أدنى أشكالِ تحضيرها (السميد والماء) ملاذَهم لسدّ الرمق واجتياز تلك الداهمة. ولي شخصيًّا أهل قُربى هلكوا فيها. ولستُ أدري مدى انتشار هذه الجائحة في بلادنا وتأثيرها، إذ هي من المرويّات الشفويّة قليلة الذكر في ما دُوّن من تاريخ البلاد. ولعل إخوتنا ممّن يقرؤون هذه الأسطر يزوّدوننا بما يخصّ أقاليمهم من كلِّ ما أشرنا إليه في هذه الكلمة العابرة.
                                            ــــــــــــــــــــــ ماي 2020
ـــــــــــــــــــــ
  - ابن منظور، لسان العرب (عن ابن الأعرابيّ).
  - هدي القاصد إلى أصحاب الحديث الواحد، ج5/ ص159.
  - ذكره صاحب الأغاني، والبداية والنهاية، والعقد الفريد، ونهاية الأرب..
  - الشيباني، كتاب الآثار. ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب. السخاوي، التحفة اللطيفة. ابن الجوزي، المنتظم...
  - الثعالبي، فقه اللغة وأسرار العربية.
  - الالوسي، بلوغ الأرب، ج1/ ص386.
  - رحلة ابن بطوطة، دار القلم، ص296.
  - ابن زهر الأندلسي، النشاط والقوة في الأغذية، ص13.







Share To: