(( كان البابُ العتيقُ مثل وجهي ، كنتُ أحبُّ أن أطرقهُ بعنف ٍ كلّما دخلتُ البيتَ الفارغ حتى تؤلمني يدي ، فأُحسُّ بالراحة ، كأنّما هشَّمْتُ وجهي الذي أراه ملتصقاً بالحيطان المتصدّعة و منثوراً فوق الكراسي المكسورة ، حتى إذا وصلتُ إلى نافذة من حصاري الخانق ، صفعَني وجهٌ آخر يُودِي بعيداً بكلّ تلك الراحة ، قبل أن أوقن بأن النافذة هي مِرآة صغيرة لم أعدْ أتذكّرُ متى علّقتُها أوّل مرة لأشنُق رقبتي بها كلّ صباح و مساء.
و ما أنْ أجلسُ مـُنهكاً حتى يُطالعني من خلف الباب وجه جارتي المصبوغ بكل الألوان و هو يتلوّى بابتسامة بلهاء ، تختلطُ ألوانُهُ الغريبة ، فأحسّ بالغثيان ، أصفقُ الباب بقوّة و أجثو على رُكبتيّ و أهربُ بوجهي في كلّ صوب ، فلا أرى سوى صورة رجلٍ تطرده إمرأة سمينة عارية ، تترَجرَجُ مثل قِربَـة حليب ، يركعُ بين رجليها ... تدفعهُ ...تصفق البابَ خلفه و ترمي له بقميص ممزّق ليستر به عورته ... فلايبقى أمامي سوى أنْ أتدارك المغسلة لأتقيّأ بقوة كأني أدعو أحشائي للخروج .
أهدأُ.... و أنا لا أزال منكفئاً فوق الحوض... أُنصِتُ لأنفاسي اللاهثة ، و بطيئاً أُدرك بأنَّ لا أحد معي ... أهدأُ و أفتحُ باب القلب لموتٍ جديد ....
منذ أنْ دخلتُ حاملاً حقيبتي المربّعة كصندوق خشبيّ الى هذه الغرفة ، مع صاحبة الدار ذات الزند المنفوخ البضّ ، هارباً من أيامي القديمة ،استسْلَمتُ للوِحدة ، و الغُبار ... وحيداً كُنْتُ ... معي الغبارُ و الصمتُ ، و كنتُ أجولُ ببصري في زوايا الغرفة الصغيرة ذات الجدران المشقّقة و السقف المقفّع .. الغبار يطغي على كل شيء و يوحي لعينيّ بلونٍ حزين ... كُنْتُ أنظرُ كأني أقرأ قصيدةً حزينة ، و إذ أَصِلُ ببصري الى المَرأة المُكوَّرة و صدرها الشامخ ، ألمحُ في عينيها اشتهاءً رهيباً يلتهم صدري المكشوف ، فأفِزُّ ، كَأَنَّ مَسّاً أصابني ، و إذ تنتبهُ ليَديّ و هي تغطّي صدري ، تبتسمُ كالشيطان ، و تخرجُ متثاقلةً تجرُّ خلفها ردفاً راقصاً ...
كان البُكاء هو الطقس الوحيُد الذي يجلو قلبي ، و كنتُ أحبُّ أن أبكي ... يَدهَمني البكاءُ فجأةً ، و أعجبُ للدمع الذي أسكُبُهُ لساعات طويلة ... بدأَ الأمرُ مصادفةً ، إذ لَمَحتُ أثرَ الجُرح العميق الذي يُوَشّم ذراعي ، ذاك الذي ورثتُهُ من طفولة بعيدة ؛ فتذَكّرتُ أُمّي .... إعتَرَتْني رجفة خفيفة و تذكّرتُ وجهها الذي ما كان يصلحُ لغير الطِيبة ، حتى إبتسامتها البسيطة ، ما كانت تستطيع أنْ تكظمها حتى تظهر في مكان آخر من وجهها المكسوّ بضباب ٍ شفيف ، كُنْتُ أعتقدُ في بادئ الأمر أنه لسبب ما في عيني ، حتى كان ذلك اليوم الذي كنت نائماً فيه في حضنها ، حيث قَرّبتُ شفاهي من خدّها فلَسَعَتني برودة لطيفة وتَنَدّتْ رموشي بقطراتٍ كالنَدى ؛... كانت لها رائحة الشواطئ .. الرمل ..البساتين ، و هيئة الشجرة المُورقَة ..حين جئتُها باكياً والدمُ يسيل من ذراعي إعتراها الخوف وسارَعَتْ الى ربط ذراعي بقطعة مَزّقَتْها من طرَف ثوبها و هي تقرّعني بصوتها المبحوح و تضرب ظهري لائمةً بيد حانية ... وحين انتهتْ ، توقّفَتْ فجأةً و غمر العطف ُوجهَها.. مَسّدَتْ شعري المُغبر من لعب الطريق ..و قَبّلتني ، فتنَدّى خَدّي ...، تعجَّبتُ ، قبل أنْ ألمح عينيها تغرقان بالدموع .... وهكذا ؛ كلّما رأيتُ ذاك الجرح ، غمرني الشوق و اشتدّ بي الحنينُ إليها ، و بَكَيتُ ،... تطوّر الأمرُ ، أصبَحتُ دون قصد أو موعد محدّد أشعر بالخشوع يجتاحني ، فأُطرقُ في هدوء ، ودون صوت ٍ ، وحيداً ، أبدأُ بالبكاء ...... ))
........
....
مقطع من قصة
( خريف مبعثر )
جائزة القصة القصيرة / مسابقة كلية الآداب الجامعة المستنصرية - ١٩٨٨
.........



Post A Comment: