روفيدا

من بين اصدقاء الفيس ، تعرفت على فتاة -لن اذكر اسمها- صورتها تشبه صورة روفيدا. لكن—تبين لي بعد ذلك أنها غريبة الأطوار. وأنا أدرك قسوة هذا التعبير وشدته لو انها سمعته، فمثل روفيدا هذه ، لا يعجبها العجب. 
في البداية طلبتْ صداقتي ووافقتُ. ثم بعثتْ لي ورداً بمختلف الالوان. وكانت تستفتح حضورها الصباحي والمسائي بكلمتين فقط ، اما حضورها الليلي فيكون عادةً مضيئاً وشفافا. كانت شحيحةً في التعاملِ بالمفردات، ولديها شغفٌ غير طبيعي باستخدامِ الرموز و السمايلات. خاصة عند وصولها لحالة الاضطراب المفرط، حيث تقوم بارسال وجوه تعبيرية مطورة ، مثل وجه ضاحك بسكين مغروزة في الجبهة.
 لكن بعد فترة اشتدّ بها الشوق، وأصبحتْ سخيةً على غير عادتها. سخيةً جدا. مما دعاني ذلك لمحاولة تجاهلها او التحايل عليها بالظهور مرة والاختباء مرات ..
ولابد ان اقول هنا، ان ثمة من يخطر له السؤال عن شكل الفتاة، او عن جنسيتها. وربما هناك من لديه الفضول بالتعرف على حقيقة سلوكي العاطفي تجاهها. فيما يخصني، اقول  لهذا الاخير بأنني سأكون مهذباً إلى أبعد حد ممكن معها. أما لمن سبقه انصح بمتابعة رسائلها التي تشبه قوارب تائهة في عرض البحر.
وبما اني دائم التسكع في الفيس وصفحتي مشرورة بالشمس، كان من السهل عليها اصطيادي في أي وقت يحلو لها.. وبعد اقل من اربعين يوما قبل اختمار تجربة المخللات التي حرصت على نضجها في الموعد المحدد، وكما لو كانت تطل علي من فوق السياج، رأتني —وانا اتصفحُ رسائل الماسنجر ، فوجدتُ رسالة طرية وطازجة منها:
"هذه الليلة سانتحر حتماً اذا لم ارك! موعدنا حين تتعانق عقارب الساعة! " 
انا اعرف انها عندما تقول "حتما "كالتي ترددها باستمرار ، تكون صادقة الى أبعد حدود الصدق.
فكرت أي رعونة هذه التي ارتكبها الليلة، هل أخرق قوانين التباعد الكوروني ، ضاربا بها عرض الحائط واقابلها؟ ام اتركها تنتحر ؟ 
لم يتوقف تفكيري غير دقائق عن الثانية عشرة ليلا..  ثم حصل الذي حصل بعد ذلك.  فقد نمت نوماً عميقا حتى الصباح. اعلموني بعد يومين بخبر موتها منتحرة ..
لا ..لا لا !
اين سأذهب من عقاب الله؟
واذْ انا بتماس مباشر معها، قبل انتحارها، كنت على وشك ان احمّل نفسي كل تبعات ذلك الموت، او حمّلتها فعلاً. بقيت افكر بروفيدا وما قالته عن موضوع انتحارها. ولكثرة تكرار ذلك، علقت الفكرة تماماً بذهني ولم تعد تتقبل الخروج او الاستخراج، كأنها وقعت في بئر نفطية عميقة. 
انقطعتُ عن الفيس لأيام ثلاثة من اجل نسيانها. لكنّي حينما عدتُ ومعي الفكرة ،كنت كمن مضى على غيابه اعواماً ثلاثة كامله.
أول رسالة قرأتها بعد العودة، كانت منها! نعم منها هي. وكنت احسب أنها جاءتني من القبر! رحت ادقق في حسابها، فوجدته نفس الحساب. وهذه صورتها التي تشبه صورة روفيدا، عدا بعض النقاط السوداء والرمادية التي تجمعت وشكلت خطا أسود مائلاً ، احتل الزاوية العليا اليسرى من الإطار.. 
هذا غير معقول! كيف يصح هذا؟ هل تستطيع فتاة ميتة ان تراسلني! 
يا الهي بوجه من التقيت اليوم في الصباح؟!
فكرت: في مثل هكذا حالة ، بات الامر ضرورياً ، ان استنجد بأحد اصدقائي. وكنت أفضل ، مع نفسي،  أن يكون من ذوي القربى اقصد المتواصلين معي بقوة تهتز لها عروش الفيس، وليس من ذوي اللايكات البائسة ..لا .. يجب أن يكون على الأقل من المعلِقين اوالمعَلَّقين على جدار اكبر عدد من الصفحات. ولأن اصدقائي كثر ، لم أطل في عملية الاختيار. استعرضت احدهم اثق كثيرا به، الأحرف الاولى من اسمه ولقبه هي" أ ، أ " إذن هذا هو من وقع عليه اختياري ،و استدعيته على الفور.
 نصحني— عليك بعدم التسرع، انتظرني هذه الليلة سآتيك بأخبارها . فصرخت به ! 
الليلة ؟  حتى انت تقول  الليلة؟ قل لي بالضبط ما الوقت؟. فقال:
عندما يتعانق عقارب الساعة !!! 
بدت افكاري تتساحب، و راح ذهني ينبعج مثل جدران بيت آيل للسقوط، اختفت ملامحه وأبوابه— دخلت عليّ روفيدا من الباب الرئيسي غاضبة.. رميتُ الحاسوب جانبا، و بذهول هممتُ اتفحّصها. قالت لي:
-ما الذي دهاك؟  انا لم انتحر ، انا حيّة أمامك!
ثم بدأ غضبها يتقهقر وأخذت تتحدث بميوعةٍ تامة كما كنت ألمسهُ منها في حديثها وهي حيّة. ورغم اقتناعي أن موتها كان في ذهني فقط، اخذني الحماس ورحت أغلي.  لأول مرة التقي بها وجهاً لوجه—ملعونة هذه الفتاة ، جميلةً حتى وهي ميتة ! ورأيتني أذوب كالشمعة ثم اتبخّر وأصيرُ مثل غمامةٍ احطّ فوق أجفانها ورموشها الطويلة المقوسة .
انتبهتُ لنفسي: ماذا لو كان هذا اللقاء حقيقة وليس مجّرد تخّيلات؟
لكنّي تخلّيت تماما عن عواطفي وتركتها جانباً. بداخلي "انا "مصغّر الحجم، يفكّر بهدوء بعيداً عن الاثارة. عنده ليس من السهل أن ينتحر انسان ما بسببه ، حتى لو كان ذلك غير صحيحا . وقال انه يتفاعل مع المؤثرات ولا ينتظر صحتها من خطئها  فتلك من مسؤوليات  العقل ..
قلت لضميري: وما العمل الآن؟ رد—عليك الابتعاد عن المشاكسين ومواصلة البحث عن حقيقة روفيدا!
بعد فترة اتصل بي "أ،أ" وكنت اعوّل كثيرا على ظهوره، وقال إن صفحتها تبدو لي مهكرة ، ولم افهم منها شيئاً، مرةً تفتح وأخرى تغلق. لكنّي واصلت البحث والتحري بجهد استثنائي، ثم صمت قليلاً وقال:
"وجدت لها  أكثر من صفحتين لحد الان، ظهرت روفيدا في واحدةٍ منها، ليست بفتاة" .
انتهت…



Share To: