(الجزء الثاني)

تجليات الأنا في النص
للأنا الشعرية حضورها اللافت في القصيدة، فالقصيدة تنسج ملامح تلك الأنا حتى عند حديثها عن المحبوب، إذ يصبح المحبوب كاشفا عن ملامح الأنا في تصورها ورؤيتها لنفسها وللآخر أكثر من كشفها عن ملامح المحبوب نفسه، وسوف نحاول رصد ملامح الأنا في مرآة نفسها متخذين من النص الشعري نبراسًا نهتدي به.
 
 الأنا في مرآة نفسها 
رسمت الألفاظ والجمل في النص صورة محدَّدة المعالم للأنا الشاعرة، بحيث لا تخطئها العين، واحتلت صورة الأنا الشاعرة النص كاملا فلا يخلو مقطع من مقاطعه دون وضع خط من خطوط تلك الملامح، فإذا وصل النص إلى نهايته اكتملت ملامح الأنا الشاعرة، واستقرت في الذهن الرسالة التي أراد النص إيصالها.
1 – الصدق: تتجلى الأنا الشاعرة في مرآة نفسها صادقة، وباحثة عن الحب والأمان، وقد بدا ذلك منذ السطور الأولى من القصيدة؛ إذ تقول (حملت جسدي بحثا عن موطن دافئ غير قلبك ...) إنها صادقة مع نفسها في البحث عن الحب الصادق، ولذلك كان قرارها بالرحيل نتيجة طبيعية لأنها لم تجد دفء الحب، فحملت جسدها إلى حيث الدفء، ويبدو صدقها مع نفسها من وجهة نظرها حين تقول (لا أريد لميزاني أن يخذل عدل المحبين) وتبدو الأنا الشاعرة محبة، ومتسقة مع المحبين وقوانين المحبة، ولذلك كان رحيلها؛ لكي تكون أناها متوافقة مع ما تؤمن به من عدل المحبين، ويبدو صدقها في أشد وضوحه حين تقول (سأتذكر كل ما لم يكن بيننا .. أماكن الثقوب المؤلمة .. شرفات تلصصت على حلمنا .. لغة خرساء أبطأت نويف كلمات الغزل .. خريف علقناه بشتائنا، وما سقطت أوراقه وما ذبلت) يتجلى الصدق واضحا حين ذكرت الشاعرة الجوانب الإيجابية للتجربة، فهي لم تشوِّه التجربة، ولم تذكر الجوانب السلبية، ولكنها ذكرت أن تجربة الحب كانت ملئية بالصدق وامتلأت الحوارات بينهما بالغزل الذي جعل الحياة ربيعا مزهرا، ولم يكن بينهما ما يعكر صفو الحياة، ويتجلى الصدق الذي حاولت الشاعرة أن تصبغه على أناها في نهاية المقطع حين ذكرت أنها لن تساعدالمحبوب على التخلص من حبها، وقد يفسر البعض ذلك بأنها ما زالت وفية لحبها، وتتمنى أن يصدق المحبوب في حبه، وأن يظل محتفظا بهذا الحب، ولذلك فهي لن تساعده على التخلص من هذا الحب، فتقول: (لن أساعدك على مغادرتي منك .. صدرك مخلوق بحجم رأسي .. آثار أنفاسي على جلدك .. همسات قصصي في مسمعك .. دمك مزدحم بريقي) إن صورة الأنا الشاعرة في مرآة نفسها صورة ناصعة تحاول الشاعرة أن تصدِّرها للمتلقي، وتحتل مسامع المحبين، وتستميل عقولهم، وتستحوذ على قلوبهم.
2 – الإخلاص: وهو من الملامح المهمة التي تحاول الشاعرة رسمها للأنا في ذهن المتلقي مدركة أن هذه الصفة جوهرية في العلاقات الإنسانية عامة، والعلاقة بين المحبين خاصة، ولذلك حاولت جاهدة أن تكون ضمن الملامح التي تتجلى بوضوح في صورتها، كما حاولت في الوقت نفسه نزعها عن المحبوب؛ لتبرر رحيلها؛ لأن نزع هذه الصفة عن المحبوب يثبتها لها؛ إذ إن رحيلها كان نتيجة صدقها في المحبة وإخلاصها لهذا الحب، ولما لم تجد إخلاصا من المحبوب لم يكن أمامها سوى الرحيل، وحين تقول: (سأخرجك مني حتى إن احتاج الأمر ممارسة غضبي لأحطم جسرا واصلا بين روحي وأبديتك فيَّ حتى إن احتاج الأمر جراحة عاجلة) فقولها (إن احتاج الأمر ممارسة غضبي ... إن احتاج الأمر جراحة عاجلة) فهذا يدل على إخلاصها للتجربة، فهي لم ترغب في الرحيل، فالحب متمكن من نفسها لدرجة أن الأمر يحتاج إلى ممارسة الغضب، كما يحتاج أحيانا إلى جراحة عاجلة، وهو مجاز دال على القوة في التخلص من هذا الحب، ومع هذه القوة تتجلى صورة الإخلاص؛ إذ إن استخدام القوة ناتج عن تمكن هذا الحب من النفس، وهو ما يعبر بطريق غير مباشرة عن إخلاص الأنا الشاعرة في حبها.

الآخر في مرآة الأنا الشاعرة
بدت صورة الآخر/المحبوب في النص سلبية إلى حد بعيد، وقد حرصت الشاعرة على إبراز هذه السلبية؛ لأنها في الوقت الذي تثبت فيه سلبية المحبوب تتجلى إيجابية الأنا الشاعرة، ومن ثم فإن رسم صورة المحبوب لم يكن إلا لإبراز إيجابية الأنا الشاعرة، ولذلك ارتكزت ملامح المحبوب على خطوط محدِّدة ومختارة بعناية، فهو غير مخلص للتجربة، فتقول: 
تصفق وحدك لمشهد أديته بمهارة 
وخرجت بقرار يعفيك من قصة حب موبوءة بالعتمة
إن التركيز على هذه الصفات لدى المحبوب لم يكن مقصودا لذاته، بل لإبراز الصورة المعاكسة للأنا الشاعرة، فإذا كان المحبوب غير صادق فإن الشاعرة تتحدث في المقابل عن نفسها بأنها ستمارس غضبها في التخلص من التجربة التي لم يكن الطرف الآخر صادقا فيها، وهذا ما يبرز صورتين متعاكستين: صورة المحبوب المخادع الكاذب، وصورة الأنا الشاعرة الصادقة. 

الأنا في مرآة المتلقي

إذا كانت السطور السابقة قد  حاولت أن تبرز صورة الأنا الشاعرة في مرآة نفسها، وصورة الآخر في مرآة الأنا الشاعرة فإن السطور التالية سوف تحاول رصد ملامح الأنا في مرآة المتلقي، أي كيف يرى المتلقي الأنا الشاعرة من خلال ما عبَّرت عنه ألفاظ النص وجمله المتنوعة.
1 – المراوغة: تبدو الأنا الشعرية في النص مراوغة – ليس بالمفهوم الأخلاقي لهذا المصطلح – إلى حد كبير، فإذا كانت المراوغة إجراء يستخدمه المتكلم للخداع من خلال ذكر بيانات أو معلومات صحيحة ولكنها تنحرف في الدلالة عن الهدف الأصلي، أو تنتزع من السياق الطبيعي لها فتؤدي إلى جعل المتلقي يستنتج استنتاجات خاطئة، ولكنها مقصودة ممن قام بالمراوغة فإننا أمام استخدام واضح للمراوغة من جانب الشاعرة، وقد بدت تلك المراوغة في مواضع متعددة في النص، تقول: 

حملت جسدي 
بحثا عن موطن دافئ غير قلبك 
قبل أن أصاب بنوبة فزع 
لقرارك المفاجئ
 
وتبدو المراوغة هنا في قولها (قبل أن أصاب بنوبة فزع) بعد قولها (حملت جسدي) فالمعلومة الصحيحة التي تستخدمها الشاعرة في هذا الموضع هو الرحيل الذي دلت عليه جملة (حملت جسدي) والمفروض أن تقول حملت جسدي/رحلتُ لأنك فعلت كذا، أو لأنني اكتشفت كذا ... إلخ، أي أنها تذكر سببا ملموسا دفعها إلى حمل جسدها، والابتعاد، ولكننا فوجئنا أنها تقول (قبل أن أصاب بنوبة فزع لقرارك المفاجئ)، ومع أننا لا نعرف ماهية هذا القرار الذي قد يفاجئها، والذي لم تذكره فإن اللمحة الأولى أن المحبوب لم يتخذ قرارا على حد تعبير الشاعرة، واللمحة الثانية وصف القرار الذي لم يُتَّخذ أصلا بالمفاجئ، وكأنه لم يكن له مقدمات تستدعيه، وتأتي المراوغة هنا من خلال إضراب الشاعرة عن ذكر السبب الحقيقي للرحيل ولجوئها إلى تلفيق حجج ليست أسبابا، ولكنها مخاوف في نفسها ليس عليها أدلة، ولا لها شواهد تبررها، وتدفع المتلقي إلى الاعتقاد فيها، وأنها السبب الحقيقي والمقنع للرحيل، بل تدفعه إلى الاعتقاد أنها قد اتخذت القرار الصحيح والمنصف تماما عندما رحلت، أما الموضع الثاني الذي يعبر عن المراوغة فهو قولها:
لا أريد لميزانى 
أن يخذل عدل المحبيبن 

إذ إنها أضفت على نفسها صفة العدالة، من خلال إضافة ضمير المتكلم الدال عليها إلى لفظ الميزان، ثم اتخاذ هذا الميزان مقياسا لقياس عدالة المحبين، والمعلومة الصحيحة هنا هي أن الميزان مقياس للعدالة فعلا، ولكن الشاعرة أضافت الميزان إلى ضمير المتكلم الدال عليها، ومن ثم فإنها جعلت من نفسها مقياسا لعدالة المحبين، فتحولت بذلك من مجرد محب من المحبين، قد يصدق في حبه وقد لا يصدق، إلى مقياس لعدالة الحب، فما تفعله هو الحب وما لم تفعله ليس بحب، وبذلك نصَّبت نفسها الحكم العدل بين المحبين، فأصبح بذلك رحيلها انتصارا لعدالة المحبين، وفي ذلك من المراوغة ما فيه، ثم يأتي الموضع الثالث الذي يحمل دلالة المراوغة في قولها (سأتذكر كل ما لم يكن بيننا) ومكمن المراوغة هنا أن الشاعرة ما زالت تخفي الهدف الحقيقي للرحيل، وتحاول إضفاء المشروعية على هذا الرحيل، فكل ما ذكرته عبارة عن عوارض خارجية وليست أسبابا، فإذا أردنا ترتيب الأمور فسوف تكون كالتالي (إنني سأرحل لأنني أريد أن أبحث عن موطن دافئ غير قلبك، ولأنني لا أريد أن أخذل عدل المحبين...) وقد يقول قائل إن قولها (موطن دافئ غير قلبك) دليل واضح على ضرورة الرحيل، ولكن الشاعرة في المقطع التالي مباشرة تقول (سأتذكر كل ما لم يكن بيننا ... لغة خرساء أبطأت نزيف كلمات الغزل، خريف علقناه بشتاءنا، وما سقطت أوراقه وما ذبلت) فلم تكن بينهما لغة خرساء أي أن التواصل كان مستمرا بينهما، و لغة الغزل كانت مستمرة، بل كانت كالنزيف، أي كثيرة ومتدفقة ... فمن أين يأتي القول بأن قلبه لم يكن دافئا، وأنها تحتاج إلى موطن دافئ غير قلبه، إنها تراوغ في ذكر الأسباب الحقيقية للرحيل، أما الموضع الرابع الدال على المراوغة ففي قولها (سأخرجك مني ...) والمراوغة هنا ناشئة عن كونها كشفت عن التناقض الذي وقعت فيه، ففي البداية قالت (حملتُ جسدي بحثا عن ...) ولفظ حملت فعل ماض دال على زمن انتهى، وهذا يعني أنها قد اتخذت قرارها ونفَّذته، ولكن تعود لتقول (سأخرجك مني) فهل رحلت بالفعل، وانتهت القصة أو أنها سترحل ؟! لقد راوغت الشاعرة في إظهار مشاعرها الحقيقية فبدت مترددة بين الفعل وضده في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى وقعت فيما سبق أن نفته، وكل ذلك لتمارس خداعا للهروب من تقديم الواقع الحقيقي للتجربة ونتائجها وتداعياتها، وقد يلتمس البعض العذر لها فيبرر ذلك بأنها منذ البداية أخذت قرار الرحيل نتيجة خوفها من فشل التجربة، وعدم قدرتها على تحمل النتائج النفسية لهذا الفشل، وهذا تماما هو النتيجة التي تريد الشاعرة أن يعتقدها المتلقي، واستخدمت في وصوله إلى هذه النتيجة كل الوسائل التعبيرية التي أشرنا إليها سابقا.
2 – التناقض: وهو مرتبط إلى حد بعيد بالملمح الأول (المراوغة) وقد بدا التناقض في حديث الشاعرة في بداية النص وحديثها في آخره، ففي البداية قالت: ( حملت جسدي إلى موطن دافئ غير قلبك قبل أن أصاب بنوبة فزع لقرارك المفاجئ ...) وهو حديث واضح الدلالة على قرار الشاعرة بالرحيل، ثم تقول في نهاية النص (سأخرجك منى حتى إن احتاج الأمر ممارسة غضبي؛ لأحطم جسرا واصلا بين روحي وأبديتك فيّ، حتى إن احتاج الأمر جراحة عاجلة) وهو حديث واضح الدلالة أيضا على تمكن الحب من قلبها، واستخدامها السين الدالة على المستقبل تهديد واضح بأنها ستتخلص من هذا الحب، وهذا يعني أنها لم ترحل ولكنها سترحل، ويؤكد ذلك قولها (جسرا واصلا بين روحي وأبديتك فيَّ) وهي كلمات دالة بعمق على التمكن، وهو ما ينفي ما قالتها في البداية (رحلت ...) فلفظ (رحلت) دال على الفعل الذي حدث وانتهى، وقولها (بحثا عن موطن دافئ ...) دال على المكان الذي قررت الرحيل إليه، أما قولها (سأخرجك مني) فهو دليل واضح على تمكن الحب من نفسها، وقد يقول قائل: إنها رحلت فعليا ولكن مشاعرها ما زالت مرتبطة به، وهذا يبرر قولها (سأخرجك مني) أي لن أظل متمسكة بهذا الحب، ولكن هذا المبرر لا يصلح؛ لأنها لو كانت متمسكة بالحب فسوف تحاول، وبما أنها لم تذكر سببا للرحيل، ولجأت إلى المراوغة فإن الأقرب للمنطق أنها متناقضة في الموقفين، وهذا التناقض واضح جدا في النص عبر امتداده، أما الموضع الثاني الدال على التناقض فهو مرتبط بالموضع الأول، فهي قد اتهمت المحبوب بالخداع من خلال قولها (بينما تصفق وحدك لمشهد أديته بمهارة وخرجت بقرار يعفيك من عبء يجرك إلى قصة حب موبوءة بالعتمة) ولكنها تعود لتقول في نهاية النص (وعقابي لك: لن أساعدك على مغادرتي منك ... صدرك مخلوق بحجم رأسي ... أحاديثي السرية ملفوفة بصمتك ... آثار أنفاسي على جلدك ... دمك مزدحم بريقي) ثم يأتي التحدي الكبير منها في قولها (فأرني إذن كيف تُخرجني منك؟) ومن الواضح أن الموقفين متضادان، فهل كان المحبوب مخادعا كما أوردت الشاعرة عندما قالت (تصفق وحدك لمشهد أديته ...) أم كان ممتلئا بالتجربة، وغارقا فيها حتى أذنيه كما أوردت عندما قالت (لن أساعدك على مغادرتي منك) ؟ إن التناقض الواضح بين الموقفين جعل المتلقي لا يستطيع الجزم بحقيقة الموقف النفسي والشعوري الذي يمكن أن يكون عليه المحبوب، وبخاصة أن المتلقي لا يمتلك مصدرا آخر للمعلومات سوى حديث الشاعرة، بمعنى أن القصيدة لم تشتمل على حوار بين الطرفين، أو أي شكل من أشكال الظهور للمحبوب يمكن أن يستقي منه المتلقي توصيفا حقيقيا له أو لمشاعره. 

كيف تخرجني منك؟!
..........
حملت جسدي 
بحثا عن موطن دافئ غير قلبك 
قبل أن أصاب بنوبة فزع 
لقرارك المفاجئ ,
لا أريد لميزانى 
أن يخذل عدل المحبيبن 
حين أسجد باكية
بينما تصفق وحدك لمشهد
أديته بمهارة
وخرجت بقرار يعفيك من عبء
يجرك إلى قصة حب موبؤة بالعتمة ,
سأتذكر كل ما لم يكن بيننا :
أماكن الثقوب المؤلمة, 
شرفات تلصصت على حلمنا , 
لغة خرساء أبطأت نزيف كلمات الغزل, 
خريف علقناه بشتاءنا
وما سقطت أوراقه وما ذبلت
سأخرجك منى, 
حتى أن احتاج الأمر ممارسة غضبى, 
لأحطم جسر واصل بين روحي
وأبديتك فيّ, 
حتى إن احتاج الأمر جراحة عاجلة
وعقابى لك :
لن أساعدك على مغادرتي منك
ذكرياتك فى ملامحي,
صدرك مخلوق بحجم رأسى 
أحاديثي السرية ملفوفة بصمتك, 
آثار أنفاسى على جلدك, 
همسات قصصي في مسمعك
دمك مزدحم بريقى 
فأرنى إذن
كيف تخرجنى منك! 
.....
فدوى حسن
الرياض ٢٠٢٠/٨/٢٨



Share To: