في صيف 1998 بعدما أتممت دراسة الماجستير في جامعة انديانا في بنسلفانيا وقُبلت في قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة أريزونا، قررت الانتقال إلى هذه الأخيرة سفرا بالسيارة. استأجرت سيارة وقدتها في رحلة استكشاف لما يسمى "وسط أميركا Middle America" أي المدن الصغيرة والمزارع الخضراء الممتدة، وقد كانت رحلة رائعة قطعت فيها لوحدي وعلى مدى عدة أيام 19 ولاية، من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي، كنتُ أبتعد فيها عن الطرق السريعة وأتبع الطرق الريفية الخلابة التي كان يُشار إليها على الخرائط بـ Scenic Roads لا تصاحبني فيها سوى أغاني الكنتري الأميركية من راديو السيارة.
خلال تحضيري لهذه الرحلة اتصلت بصديق لي اسمه حازم (ليس اسمه الحقيقي) كان يدرس دراسات عليا في الهندسة في جامعة ميزوري واتفقت معه أن أزوره في طريقي وامضي ليلة في ضيافته. كنتُ تعرفتُ على حازم في سوريا عندما جمعتنا مقاعد الدراسة للتحضير لمنحة الفولبرايت الأميركية، وكان هو مبتعثا من الدولة. كان حازم، في التصنيف السوري المستور والمعلن، علويا من قلب جبال العلويين، وكنت أنا سنيا من أشدّ المناطق سنيّةً في دمشق. لكن، ولربما بسبب طفولتي في ليبيا، ولميول والدي البعثية، لم يكن عندي حساسية تجاه "الآخر" وكانت صداقاتي في سوريا شبكة متقاطعة من خريطة سوريا الإثنية والطائفية، وهو أمر كثيرا ما جرّ عليّ المتاعب بين الأصدقاء.
كان حازم شابا أنيقا نشيطا طموحا محبا للدراسة وللحياة. لم تكن معرفتي به عميقة، لكن أذكر أنه كان عاشقاً للفنانة السويدية إنغريد بيرغمان، وكان هذا يكفيني ليكون صديقي! كان مخطوبا وكانت خطيبته لا تفارقه، وإن أحسستُ حينها أن العلاقة ربما كانت مفروضة عليه، وكان من الواضح أن الفتاة لم تكن سعيدة بسفره إلى بلاد العم سام البعيدة.
في أميركا التي تبتلع الشاب كدوامة في محيط انقطعت الصلة بيني وبين حازم وكانت أخباره تصلني من هنا وهناك، حتى كان موعد انتقالي إلى أريزونا بعد سنين، حيث اتصلتُ به فرحّب بي أيما ترحاب وأصرّ أن يستضيفني في شقته بدل نزولي في فندق على عادتي. وصلتُ مدينة كولومبيا، حيث جامعة ميزوري، مساءاً. استقبلني استقبالا حاراً، وضعت أمتعتي في شقته وخرجنا يعرّفني على حياة الليل في تلك المدينة الجامعية، وككل المدن الجامعية في أميركا، كانت حافلة بالنوادي والمقاهي مليئة بصخب الشباب وحب الحياة.
في حديثنا الذي دار في أحد تلك المقاهي في صيف ميزوري العليل على عشاء من بيتزا الطلاب الدسمة وأكواب الجعة الكبيرة أخبرني كيف انفصل عن خطيبته وكيف تعرّف على فتاة أحلام أميركية وكيف كان يعيش الحياة إلى أقصاها. فاجأني أنه قال لي أنه كان خائفا جدا قبل مغادرته سوريا وأنه كان يحسب الدقائق قبل خروجه. كان سفره، ومشروع حياته كله، مهدد بقرار موظف في المخابرات أو بحدث دولي يغيّر مسار كل شيء. أذكر أنه قال لي جملة علقت في ذاكرتي بتمامها: محمد، كنتُ أخاف أن أموتَ قبل أن أخرج من سوريا... الآن، لو مِتُّ في هذه اللحظة، فلن يهمني هذا الأمر... لقد عشتُ الحياة كما أريد...
الصورة الأولى لإنغريد بيرغمان، أما الثانية فهي لي نهاية التسعينات أمام حصن "نِسيسيتي" في ولاية بنسلفانيا والذي تحصن به الكولونيل جورج واشنطن في ما يُعرف بالحرب الفرنسية الهندية عام 1754.



Post A Comment: