كنت أسأل أبي عن الحياة التي عاشها في الماضي، فيجبني بحب، ذلك أن الزمن الذي كان فيه وآخرون أمثاله كان زمنا حافلا بالعفوية والعيش الهانئ، أخبرني مرات عديدة أنه خرج في سن صغيرة جدا، ماتت والدته حين كان يلعب مع أقرانه البلية وجر الحبال والعدو، كان متأسفا كثيرا عن موت والده ووالدته في سن لم يستوعب فيهما ملامحهما الدافئة.. عاش جوالا ورحالا حينئد.. تجرع الألم والمعاناة ، تلك المدن والشوارع والقرى والمداشر البعيدة شهدت له بذلك .. وكان ينصحني بأن أصلح فترة شبابي، لأن الإنسان إذا ما عمل على تضيعها في الأشياء الفاسدة سيتألم وللأبد..
لماذا لا أكون مثل أبي، رحالا وجوالا..؟ ما الذي يمنعني من هذه الأحلام الصغيرة .. ؟ أكتب الآن من غرفتي المكتراة في سطح المنزل، في مدينة تبعد عن دياري بعض الكلمترات العديدة، وأشعر أنني في غربة شديدة، حين أكون في منزلي الأم، لا أحس بهذا الفرق بتاتا، أم واليوم فقد أحسست به صدقا، هذا البعد ينخرنا أكثر نحن البعيدون عن شمس قرانا ومداشرنا المعزولة.. رغم ذلك نسارع كل يوم في أن نهجر الأشياء حيث ما وجدت الحرية، كيف يعيش المرأ حرا؟ ولماذا يحصر هذا المرأ نفسه بين العودة واللاعودة.. ؟ الأجوبة لا تأتي إلى رأسي كما أريد، وإنما تأتي كما أرادته لي الصدفة، نهضت إلى المرحاض، أفرغت مثانتي الممتلئة وعدت إلى فراشي جوف الغرفة، فقط أحاول إستعادة بعض الذكريات الجياشة مع والدي الحي، وكتابتها هنا على الورق، وقد أنشرها في يوم من الأيام في رواية تلعن الحواجز والقيود بين الواقع وساردها..
أشاد لي أحد المدرسين بأسلوبي الكتابي، مادحا إياه بالجيد، وأشار أن أجمع كل كتاباتي وأنشرها.. بيد أن دار النشر تلك التي أرشدني إليها كانت تضع مبلغا كبيرا يحول دون نشر السارد لأي كتاب ، ربما أراد أن يربح مني لفائدة جامعته.. أحيانا أقول له في نفسي بأنني لست مؤهلا للنشر والطباعة ، كما أن مستواي ضعيف جدا، وعلى أي مبتدأ ألا يقدم نفسه كاتبا، إن كل شيء ينقصني، أنا فارغ، لذلك أحاول جاهدا ملأ كل الفراغات التي ضيعتها بحثا عن السراب..
لم يحس بي أحد في حياتي إلا من أمي وسجارتي، أعيش الدنيا وزرقتها بنصف رئة وقولون عصبي يستبد بي كل ليلة، لقد انقطعت عن التدخين سنة كاملة، و كان يخبرني الطبيب أنني اذا ما ظللت على ذلك الحال فسأموت لا محالة، ويشرح لي بعض الأمور الطبية المعقدة بخصوص وضائف الرئتين في جسم الإنسان، وكان يطرح علي هذا السؤال مرارا وتكرارا.. لماذا تدخن وأنت تعلم بأنك تملك نصف رئة..؟ فلا أجيبه..! وهذه الإجابة طبعا ليست خوفا أو تملقا وإنما هي أعمق من أن يفهما أحد، أحتفظ بها لنفسي وأمضي في حالي...
أي مبدع يكتب، يعرف أنه يكتب لأنه ادمن فعل الكتابة وقد صارت بالنسبة إليه أداة حياة، يحلم بها أحيانا ويخرسها في احيان كثيرة.. الكاتب لا يسرد من تلقاء نفسه، إنه كائن بوهيمي غارق بالفوضى والتساؤلات، الكتابة إدمان وهي مرض خطير من تبعاتها الصحية ضعف البصر ونقص في مادة الكالسيوم، والمرأ في الأخير يكتب ما يضره سواء علم القارئ بذلك أم لم يعلم، في الحالين ينتصر السرد على السارد، ولا هروب من مشنقة الناقدين وتصوراتهم الفلسفية، فالنقد يفسد كل شيء، حتى الأدب منه..
الفن التشكيلي والرسومات الغريبة القادرة على النبش في وجدان الإنسان وسيلة راقية وفن مغمور يلهم العالم برمته إيقاع الذات وطرق تهذيبها، كل الناس يستطيعون إعطاء تصورات حول مجموعة من اللوحات الغريبة وغير المفهومة.. في النهاية لا أحد يكون قد وصل إلى جوهر الحقيقة لكل تلك اللوحات و الألغاز التشكيلية المركبة، وحده المبدع يعرف حقيقتها لا غير، فلماذا هذه الكتابة.. ؟ إنها مجحفة في حق صاحبها و الكاتب إنسان مفضوح بالطبع، ترافقه لعنة الإنتقادات أين ما حل وارتحل، لماذا لا نرسم فقط ونشرب النبيذ ونرقص على إيقاع الكمنجة المغربية ونرحل بصمت..؟
مضى الكثير من الزمن وقت كنت قد ودعت طفولتي الغارقة في السديم والفوضى والقسوة، هذا الوقت لا قيمة له بالنسبة لي لا قداسة تحتويه، قال أحد الفلاسفة الذي نسيت اسمه لأسباب مجهولة " الوقت محنة الزمن" كل ما قد فعلته في الماضي البعيد أو تخيلته لم يتحقق أبدا ، كان الزمن وحده كفيل بتحطيم أحلامي ولم أكن أبلغ من العمر حينئد عشر سنوات..
تتراكم الأيام فقط وفق دينماكية رهيبة.. يجهلها الدارس والباحث معا، لماذا ننشغل بالوقت.؟ وهل هو مهم إلى هذا الحد..؟ ما هي صفاته.. لونه..؟ شكله.. ؟ وارتسماته الداخلية حينما يخدل من طرف الأشياء المتضاربة والثابتة و التي لا تقبل الإستمرارية... ؟ في أحيان كثيرة تمنيت أن يقع لي ما وقع لأصحاب الكهف، ذلك النوم الغارق بالنسيان ألهمني الموت الأبدي ، في داخلي إنسانين يتضاربان فيما بينهما؛ يتشاجران، ينشغلان بالوقت هوسا ، الأول يراهن على الإنهزام والثاني يربي الأمل..
ثارة تستوقفني بعض الذكريات الحالمة حينما أرحل صوب دكان عروب أو منزلنا القديم أو السوق الأسبوعي .. ترعبني شوارع المدينة التي كبرت وترعرعت فيها طفلا، بل أكثر من ذلك وقع تلك الأمكنة في نفسي لا تزول ، وهنا لا يمكنني أن أحصر هذه الأمكنة بالفعل، فهي غائرة جدا وأبعد على أن تراها العين، إن الأمكنة مقدسة حقا عكس ما يشاع عن الوقت.. فإن هذا الأخير يجعل الإنسان مرتعا وخائفا من الحقيقة.. مررت قبل أسبوع بمنزلنا القديم، والغريب أنه ظل محتفظا بطاقته المعهودة من الذاكرة، لم يتغير كثيرا، نفس الجدران والباب الحديدي اللذان عرفتهما قبلا، كيف للمكان أن يحتل هذه المكانة الرفيعة في وجدان المرأ..؟ ربما نحن هم المكان الحق، إن جسدي عبارة عن مكان عجيب، وحين سأموت سيضع لي الأحياء مكانا خاصا، هو أقل رومنسية وحركية مما كان عليه في زمن الأخطاء .. ذلك المكان الذي لا توجد فيه الأضواء ولا الطرقات العابرة..
غرفتي التي اكتريتها مند يومين، بدائية الشكل، على جدارها الخلفي كتبت عبارة هيروغليفية قديمة " الموت للأشرار". فكرت مليا، هل أنا حقا شرير..؟ قال صديقي، ربما من كتب العبارة مجرد إنسان أحمق.. قلت مازحا : المجانين لا يكتبون عبثا، وهذه حقيقة ، جربت مرة أن أكتب جملة على جدار بناية جميلة، فلم أقدر، كانت تنقصني الشجاعة الكافية لفعل ذلك، لربما كنت خائفا، لكن هذا الأحمق كتب، والذي يكتب ليس أحمقا، إنه حكيم في مظهر لا يقدسه الآخرون، قال صديقي ثانية : لماذا لا تكون إلها اغريقيا أو هندوسيا، جرب مثلا أن تسمي نفسك غيشنا أو ازيروس أو بوذا أو براهما أو اخنتون أو عشتار.. لماذا لا تمثل رمزا لأسطورة ما، كأن تكون طائرا عنقائيا، تولد وتحيا من رماد أو تغدو سيزيفا أو سندبادا..
قلت : إن إسمي مصطفى، كيف سأختار أسما جديدا يليق بي كإله.. قال باسما: سمي نفسك مصطفوش آله هذه الجدران الرائبة والاواني المتسخة..
أنت تسخر مني أيها الامعة، تعلم أني عبد من عباد الرحمان، ولا يمكن لي أن اتطاول بأي من الطرق..
قهقه و سكت تباعا، تم نفث من سجارته البيضاء ورشف من محتوى القهوة الذي كان أمامه..
في المساء أتعبني القولون العصبي، أختنق طوال اليوم جراء هذه الوعكة الصحية الخطيرة، خرجت رفقة ثلة من أصدقائي للشارع، أشريت مخدرا من بائع يهاب دورية الشرطة لأخفف وجعي، تسكعت حوالي نصف ساعة، وزنت نفسي فوق آلة حديدية كما فعل رفاقي، وزني ضعيف جدا، ثمان وخمسون كيلو غراما، أم مؤشر كثلة الوزن فلم يتعدى العشرين بالمئة..
على الطريق أتمشى مختنقا، أبتسم في وجه كل شيء مع أني لست قادرا على الإبتسام، لم أخبر أحدا بأوجاعي منذ مدة طويلة، أظل أحاور نفسي لا غير، أحب ألا يطلع أحد بمشاكلي، أنتصر على الألم دون ضجيج ودون تكلف، وأشرب أحيانا بعض المهدئات لأقلل من إمكانية وجع القولون.. الحياة هادئة وقاسية معا ، رغم ذلك أعيشها بهدوء تام، إن أقصى ما قد يفعله المرأ أن يعيش على الضوضاء، الصداع لا يجلب إلا الصداع.. تذكر هذا دائما..



Post A Comment: