هناك أسطورة يونانية تقول أن الانسان يولد سعيدا أو شقيا، وهذه الأسطورة طبعا لا تمثلني على الخصوص، ذلك أنني أتجرع الشقاء في كل خطوة أخطوها للبحث عن الأمل والأبواب الموصدة التي لا علم لي بها، قضيت أسبوعا كاملا بهذه المدينة الجميلة على الأقل، فقريتي المنسية أكن لها من الحقد ما يجعلها قرية بائسة ومواربة في داخلي للأبد، المرأ محكوم عليه بالتيه، بالشقاء، بالتجربة الإنسانية واللاإنسانية، وأمقت حقيقة أن أكون وحشا أو سيئا، جئت ها هنا لأجتاز اختبارات الدورة الربيعية العادية في الجامعة بيد أن الأخيرة ألغت موعد الإمتحانات المقرر إجتيازها في السابع شتنبر من هذا الشهر، كما أنها لم تعطي تاريخا مضبوطا كما كانت تفعل سابقا، لابد أن هذه الكورونا اربكت العالم، في الحقيقة أنا لم تربكني، لقد أربكت جيبي لا غير..
اكتريت غرفة صغيرة انا وصديقي والتي تطل على سطح العمارة وبعض الغرف المجاورة في الحي، لم يكن البحر من أمامنا أو حدائق بجانبا ، بل كنا في حي خطير، أغلب سكانه يروجون المخدرات والسموم الفتاكة، قبل سنتين تقريبا كنت زبونا سخيا، وكنت أقتني الكثير من الزطلة لأنسى واقعي قليلا، لكنني ما فتئت بأن اكتشفت الحقيقة بنفسي أن الواقع يظل كما هو وأنني وحدي من أتغير حتى أقلعت عن مجالسهم وأسواقهم التي يروجون فيها كل أشكال المخدرات، بل أنني خلقت حياة أخرى ومغايرة بالكامل، أصبحت ارتاد الغاب من حين لآخر.. اقتث على السعادة المطلقة طويلا بعد هروبي عن حياة الإدمان إلا أنني أصبت بوعكة صحية خطيرة لا زلت أتجرع تبعاتها لحد الآن، ماذا يفعل الإنسان التائه.. ؟ لا شيء.. نحن ضحية لالآف من الأخطاء الحياتية، ضحية للواقع، للوجود، لأبدية الأشياء الحية..

بعد مجيئي إلى هذه المدينة أسبوعا كاملا لم يبقى عندي ما أخسره، جيبي فارغ، حتى من رفيقي لم يظل عنده درهم واحد، وبما أننا كنا بحاجة إلى الأكل والشرب كنت أقتني حاجياتي من بقال مسكين موهما أياه بأنني سأسدد له بقشيشا آخر الأسبوع، غير أنني خنته في النهاية، فأنا لا أملك ثمن ركوب حافلة لأعود إلى دياري البعيدة ، صديقي أيضا لا يملك شيئا، حزمنا أمتعتنا، وغادرنا الحي ساخطين، في الطريق رأيت دورية الشرطة تفتش سوقا تجاريا، وكلبا يضاجع أنثاه، طلبت مني عجوز صدقة فلم ألتفت جهتها، كيف يعقل أن أحاورها وهندامي يشي بأنني ثريا..؟ أكلت الطريق صوب المحطة الطرقية.. لم أكن أدخن لذلك كان من السهل ألا انفعل، بل كنت احاور صديقي على الطريق لطرد كل الملل والشقاء الذي عشناه، كنا نقضي الأيام جياع في تلك الغرفة الوحيدة بلا اكل ودون وجهة.. ربما كانت الحياة تقسو علينا أكثر، من يدري..
وصلنا إلى المحطة، أخيرا اتجهت إلى مركز حافلة كانت تنفث دخانا كثيفا، لعلها تنوي أن ترحل ناحية قدرها المحثوم، ترجيت صاحب الحافلة أن يقلنا معه إلى أقرب وجهة، وارتأيت أن أعطيه بعض التفاصيل من قبيل : أنا طالب وصديقي هذا تعثر في إجتياز أحد الاختبارت، نحن لم ندري ما وقع لنا، إن جيوبنا فارغة، طريقنا مجهولة، أيامنا حسرة وتبيعات...

هذه الكلمات جعلته قليلا يحس بنا لكنه لم يمنحنا تأشيرة للركوب، كان ذلك يزيده خاسرة على خسارة، بعد هذه الخيبة، مضينا خارج المدينة نراقب الطريق السيار والحافلات التي تروح وتجيئ في سرعة، وكنا ننوي الرحيل على الأقدام ناحية ديارنا لإن ما من وسيلة بدت لنا ممكنة ، إنها مسافة على العموم.. 

كان الجو حارا ومختنقا، لا أحد أوقف سيارته من أجلنا، بل أن كل السائقين شرعوا في زيادة سرعتهم حينما علموا أننا سنطالبهم بالركوب، قطعنا عشرون كلومتراتا مشيا على اقدامنا، أصابنا الجوع والعطش، لم نجد أية قرية تقربنا، كل الأمكنة كانت بعيدة، تمالكنا أنفسنا وسارعنا بالوصول إلى أقرب نقطة، هناك حيت مقهى شعبية على الرصيف، شربنا زجاجة ماء كاملة، تبولنا على حائط متهالك ورائب، استرحنا قليلا وبعدها تأبطنا حقائبنا وأطلق كل منا ساقيه للريح، في الطريق البعيدة رمقنا شيخ عجوز، كان يجلس في بهو داره يستمتع بكؤوس الشاي، صرخ في وجهنا قائلا: " واش نتوما رحالة، مرحبا اجيو تاكلو ما قسم الله "..
قال صديقي: نحن لسنا رحالة، نحن طلبة ندرس بالجامعة وظروفنا المادية أرغمتنا على خوض هذا المسير الشاق..
قلت مستطردا: لقد لقينا من التعب ما يجعلنا نأكل عندك حتى الشبع..
قال باسما: كل ما هو مطبوخ في المنزل لكم..
تم دخل إلى منزله وجلب صحنا مليئا باللحم والبرقرق مع براد شاي، تم جلسنا في حديقة مسيجة، وامرنا أن نأكل، التهمت أنا وايوب صحن اللحم كاملا ورشفنا من كؤوس الشاي حتى شبعنا، سردت لصاحب المنزل قصة قصيرة عن رجل رحال، فأعجبته، تقريبا لم نحس بالوقت ونحن نتبادل أطراف الحديث هنا وهناك، رحب بنا كرجل بدوي كريم لا يطمح سوى أن يرضى ربه، في الأخير شكرناه وأنغمسنا في شقاء المسير...
بعد ساعة رأينا سراب حافلة ضخمة آتية قربنا، أشرت لها فوقفت، لقد كان السائق رحيما بنا، ركبنا في الحافلة، واتجهت صوب مدينة الفقيه بن صالح ترمي بنا إلى بيوتنا المعهودة، والسؤال المطروح دائما، لماذا نتأقلم مع الأمكنة القديمة بصعوبة..؟ وكيف ننغمس في الأمكنة الجديدة بسهولة بالغة.. ؟




Share To: