في عصر ما بعد السموات المفتوحة، لم يعد التليفزيون هو الشاشة المفضلة التي تجلس أمامها الأجيال الجديدة فلا وقت لديها لهذا الجهاز "العتيق" الذي بدأ يفقد بريقه تدريجياً، لتسحب المنصات الإلكترونية من تحته بساط المشاهدة، صار لكل امريء يومئذ "شاشة تغنيه"، يتابعها بمفرده، ويقلب في أيقوناتها بلمسة "تاتش" رقيقة، بعد أن أصبح داخل كل فتى وفتاة، ريموت كنتروله الخاص، الذي يشحذ بطاريته بقوة شغفه وطاقته ووقت فراغه الشخصي.
وفي هذه الآونة، شديدة الخطورة، منحت إحدى المنصات الإلكترونية أول بطولة درامية لاثنين من الممثلين المجتهدين، أحمد العوضي وريم مصطفى، في مسلسل يحمل نفس العنوان، "شديد الخطورة"، وربما كان للعمل من اسمه نصيب، فالتوقيت بالفعل بات كذلك، من كل الزوايا، مما ألقى بظلاله على مستويات الفرجة، ومتابعة الأعمال الدرامية، وشكل هذه المتابعة ووسيلتها، وربما تقنياتها أيضاً، فالمسلسل الذي لم تتجاوز حلقاته سبعاً، استطاع جذب ملايين المشاهدين، وتصدّر "تريند" البحث على جوجل بمجرد إذاعة أول حلقتين، رغم حملات الهجوم التي أشهر فيها الكبار سيوف النقد تجاه أداء بعض ممثليه، ولكن زاوية الرؤية قد تغيّرت بالكامل، مثلما تغيّرت معادلات الحياة في العصر الإلكتروني الجديد، الذي لم تتضح، بعد، كل ملامحه.
ومن زوايا ربما قاصرة، حاولنا متابعة المسلسل على مدار "7" أسابيع، فالحلقة التي لا تستغرق نصف ساعة، علينا أن ننتظر أسبوعاً بأكمله لمتابعة الحلقة التي تليها، وهي إحدى مغامرات صناع العمل، ومحاولة لـ"تعويد" الجمهور المصري على عادة فرجة جديدة، يدفع ثمنها مرتين، مرة بأمواله نظير اشتراكات المنصة الإلكترونية، ومرة أغلى من طاقته وقدرته على التحلي بالصبر والتأني، للتمكن من مواصلة الفرجة، ومراقبة "ستوب ووتش" أسبوعية يضبط الجميع أرقامها بدقة، لكي تذكره بموعد الحلقة الأسبوعية التي انتهت سابقتها بمشهد صادم ومثير لعشرات الأسئلة.
هنا مكمن الخطورة الإبداعية، كيف تستطيع الحبكة الدرامية أن تمسك بتلابيب المشاهدين، وتعصف بأذهانهم نحو سيل من التساؤلات المستغرقة في سير أحداث المسلسل، إلى أي مدى نجح السيناريست "محمد سيد بشير" في أن تتعلق بشخصياته أذهان الجمهور، كيف استطاع الإبقاء على شغف مشاهديه الذين هم بالأساس فاقدو مبدأ التعلق طويل المدى، مشاهدون تعودوا على ألا يتعودوا على شيء، ينسون أكثر مما يتذكرون، يعيشون اللحظة بلحظتها دونما تفكير في الدقيقة التالية من أعمارهم، جيل أصبح لا مبالٍ بأهم أمور حياته، فهل يبالي بتتبع مصائر شخصيات يدرك جيداً أنها مصنوعة، فهذا بطل العمل، مالك، الشاب "الهاكر" البارع في مجال التقنية والاختراق التكنولوجي، وزوجته الجميلة "نور" التي تتلمذت على يديه حتى كادت تتفوق عليه وتنافسه في "سوفت" الكمبيوتر وتكنولوجيا الاتصالات.
ثنائي ملهم للكثير من أحداث التشويق، عزف على وتر تعلق الملايين بثنائي هوليوود الشهير أنجلينا جولي وبراد بيت في فيلم "Mr & Mrs Smith"، ولكن مع الفارق الكبير على مستوى الأداء والإبهار ونوعية "الإجرام" أيضاً، فالفيلم الأمريكي كان بطلاه يعملان في مجال القتل المحترف، وكلاهما لا يعرف عن أمر الطرف الآخر شيئاً، بينما في النسخة المصرية "شديد الخطورة"، انفردت الزوجة وحدها بأمر الجريمة والاختراق، في غفلة من زوجها، ولأن حلقات المسلسل كانت "سبعاً"، فلم يكن هناك مجال للغفلة سوى حلقة واحدة فقط، يكتشف بعدها الزوج، أحمد العوضي، أن زوجته "مخادعة" شاركت في عملية سطو مسلح تقني على أحد البنوك الكبرى، لتبدأ سلسلة من التشويق والإثارة، ومشاهد من استعراضات فنون القتال والأكشن، وكأنما لعبة "بابچي" الشهيرة "قلبت بجد".
ومنذ الحلقة الأولى، اتضحت ملامح شخصية مستر سميث المصري، مالك، البارع أيضاً في لعبة "بابچي" والذي يمارسها باحتراف مع صديقيه، زميليه في تقنيات الاختراق، وفي ثوان معدودة تنقلب اللعبة إلى حقيقة بمحاولته منع الهجوم المسلح على البنك، ولكن نتيجة الجولة الأولى اختطاف زوجته ضمن رهائن المجرمين، أو هكذا يتصور في بداية اللعبة، ليدخل ضابط الشرطة على خط القتال، ولكنه يبقى "شبه متفرج"، أو بمعنى أدق مجرد "مشجع" للبطل الذي يستعرض كافة مهاراته البدنية والذهنية والتقنية لاكتشاف خيوط اللعبة الجهنمية.
ولكي نكون منصفين، علينا أن نتفق على تغيير زاوية النقد لمسلسل "شديد الخطورة"، وإيقاف تفعيل نظريات أرسطو للدراما، وتخفيض معايير تقمص الشخصيات، وخلفياتها الدرامية، وأبعادها الاجتماعية، فهناك مساحات شاسعة غفل عنها المسلسل من إظهار حالات الحزن والشجن والانفعالات، عقب أحداث جسيمة كان من شأنها أن تؤثر في مسارات الأبطال، وتجعلهم يدخلون في وصلات من البكاء والنحيب، الذي كان يتقبله ويتوحد معه مشاهدو القرن الماضي، ولكن الجمهور المستهدف لـ"شديد الخطورة"، لن يستهلك باقة الانترنت الخاصة به لمتابعة ذرف الدموع وعويل المكلومين، وإنما ينتظر كيف سيتصرف هذا البطل المصدوم، وكيف سينتقم، وكيف سيشتبك بأيديه وذكائه مع أبطال الشر، زوجته، وتشكيلها العصابي "العائلي" المكون من والدها "المايسترو" رياض الخولي، زعيم التشكيل ومحرّكه الأساسي، وذراعه الأيمن، شقيقها "غاندي" الذي أداه ببراعة قتالية، لا تخلو من بعض المبالغات، الفنان الشاب حمزة العيلي، والشقيق الأصغر، مطلق الإيفيهات الكوميدية حسني شتا، لتخفيف وطأة الأحداث على المشاهدين.
أحمد العوضي، برغم انتقادات حادة موجهة بالأساس لطريقة أدائه التمثيلي، وإصراره على التمسك بـ"عقد حاجبيه" في وضع "العبوس"، تعبيراً عن مختلف الانفعالات من الغضب إلى الحيرة والتفكير، إلا أن مهاراته ولياقته البدنية أصبحت طرفاً مهماً في معادلة نجاحه في أداء الدور، فهو يتمتع بقوى عضلية وجرأة في الاشتباك بالأيدي المجردة مع مجموعة من المجرمين المسلحين، ويتسلق الجدران ويقفز بين أسطح العمارات، وربما تلك المشاهد جعلت النقاد يشهرون سيوف التهكم عليه وتشبيهه بـ"سبايدرمان"، ولكن لو درسنا المسألة بعمق، لفهمنا السر، فـ"العوضي" يمارس في حياته منذ سنوات رياضات عنيفة، ويحترف اثنتين من ألعاب وفنون القتال العالمية، هما "آيكيدو"، و"كراڤ ماجا".
ربما لم يسمع الكثيرون عن هاتين اللعبتين في مصر، ولكن "العوضي" يجيدهما منذ سنوات، وبينهما مزيج غريب من طاقات القتال، فـ"الآيكيدو" رياضة روحية نشأت في اليابان مطلع القرن الماضي، على يد معلمها الأول "موريهيه أوشيبا"، هدفها الدفاع عن النفس دون إيذاء الغير، مصنفة كإحدى الألعاب القتالية الحديثة، وتعتمد علي اللياقة البدنية العالية وسرعة رد الفعل، وقدرات المقاتل في معرفة نقاط ضعف الخصم وسرعة إخضاعه و"شل" حركته، وإنهاء القتال بأقل قدر من المجهود، ودون بذل الكثير من الطاقة، اعتماداً على تركيز واتزان المقاتل وقدرته الداخلية على مواجهة المواقف الصعبة، بالتوافق العضلي العصبي، دون استخدام آلات أو أسلحة.
أما اللعبة الثانية التي يجيدها "العوضي" منذ سنوات، فهي الأكثر شراسة، "كراڤ ماجا"، ومعناها باللغة العبرية "القتال القريب"، وهي طريقة قتالية ابتكرها يهودي كان يعمل في الجيش البريطاني ويدعى "إيميريش ليتشفالد"، درب عليها عصابات "الهاجاناه" و"البلماخ" الصهيونيتين، وتم تطويرها في الآونة الأخيرة وتدريب أفراد الجيش الصهيوني عليها، ويشبه هذا الفن قتال الشوارع، ويسمح باستخدام كل شيء، حتى الآلات الوحشية، لإلحاق أقصى ضرر ممكن بالخصم، بهدف إنهاء القتال سريعاً، مهما بلغت الخسائر.
والفارق بين اللعبتين واضح وضوح الشمس، وهو ما مزجه "مالك" في مشاهد الاشتباكات العنيفة التي جاءت في سياق الأحداث، وربما لم يستوعبها نقاد الدراما الكلاسيكية ذات الخلفيات المعتادة، والتي بات يفهمها جيل "بابچي" وما بعدها، ولكنها أحدثت بالمسلسل متعة بصرية وحركية ونوعاً من الإبهار الذي اجتهد فيه المخرج ، صاحب مسلسلات "الرحلة"، و"بنات سوبر مان"، وأخيراً "القاهرة كابول"، مع حبكة السيناريست "محمد سيد بشير" الذي تابعه جمهور السينما في فيلم "هروب اضطراري"، وينتظر عرض أفلامه "العارف" لأحمد عز، و"ترانيم إبليس" لأحمد السقا.
أما التلميذة، نور، الزوجة التي انكشف أمرها، وبانت حقيقة إجرامها، ريم مصطفى، يبدو أنها تدربت كثيراً قبل التصوير على أداء مشاهد الاشتباكات، لتصبح أول ممثلة مصرية تؤدي مشاهد أكشن بهذه الطريقة الحقيقية، دون الاستعانة بـ"دوبليرة"، مما كلفها العديد من إصابات الظهر والركبة، وخضوعها لجلسات علاج طبيعي لتتمكن من استكمال دور "نور"، وقفزت ريم لتجسيد دور "تاجرة مخدرات" في فيلم "العنكبوت"، أمام الفنان أحمد السقا، يتم تصويره حالياً.
ريم مصطفى، تحمل مواصفات النجمة، لا تشغل بالها بجمالها، عرفها جمهور التليفزيون في مسلسل "هبة رجل الغراب"، على مدار موسمين، وقفت أمام الزعيم عادل إمام لتجسد دور ابنته في مسلسل "مأمون وشركاه"، كما شاركت الساحر محمود عبد العزيز في "جبل الحلال"، ثم برعت في دور "شاهيطاز" الكوميدي في مسلسل "الوصية"، مع أحمد أمين وأكرم حسني، واعتقد المخرج مروان حامد أنها لن تستطيع تسلق جبل موسى خلال أحداث فيلمه التسجيلي "نقطة تلاقي"، ولكنها أدهشته وفعلتها، ريم تتحسس طريقها ببطء، ولكن بثبات، نحو قائمة السوبر ستار في عالم السينما والتليفزيون.
ظل الصراع محتدماً، بين جبهة الخير التي يمثلها القرصان المحترف "العوضي"، ومعاونه القرصان خفيف الظل "محمود حجازي"، والضابط "خالد كمال"، في مواجهة قراصنة الشر "ريم والخولي والعيلي وشتا"، حتى آخر لقطة في سابع وآخر حلقة من "شديد الخطورة"، ليجيب صناع العمل عن كل الأسئلة التي عصفت بأذهان الجمهور على مدار قرابة شهر ونصف، مع تلميح بتحضير أجزاء جديدة، من إنتاج شركة سينرجي، على المنصة الرقمية المصرية التي راهنت على وعي مختلف لجمهور جديد، شديد الخطورة.



Post A Comment: