الحملة الفرنسية
(4)
نابليون في القاهرة
الفرنسيون ينتشرون ليلا في القاهرة، يحرقون ويدمرون كل شيء، صباح اليوم التالي بعد فرار المماليك والأعيان إلى جنوب مصر، يجتمع علماء الدين بالجامع الأزهر وعلى رأسهم نقيب الأشراف عمر مكرم، ويستمر نابليون في سياسة بث الطمأنينة في أهل القاهرة فيرسل إلى الجمع المنعقد بالجامع الأزهر بيانا يقول فيه:
"يا أهل القاهرة، إنني راضي عن مسلككم، فقد أحسنتم عملا بعدم الوقوف ضدي، فقد جئت للقضاء على جنس المماليك ولحماية التجارة وأهل البلد، فليطمئن كل من انتابه الفزع، وليرجع كل من رحلوا إلى بيوتهم، وليجر أداء الصلاة اليوم كالمعتاد، فأنا أود أن تستمر على الدوام، لا تخافوا من شيء على عائلاتكم وبيوتكم وممتلكاتكم، وخاصة على دين النبي الذي أحبه، وبما أن من الملح ألا يعكر الطمأنينة شيء فإن الديوان سيتألف من سبعة أشخاص سوف يجتمعون في الجامع الأزهر، وسوف يوجد اثنان منهم بصفة دائمة بجانب قائد الموقع، وسوف يهتم أربعة منهم بحفظ السكينة العامة والسهر على الأمن"
عاد الهدوء إلى القاهرة بعد بيان نابليون المطمئن لسكان القاهرة وهو من نجح في الحصول على القوارب من الأعيان والتي بها يعبر إلى الضفة الأخرى، فتم له احتلال القاهرة (كما سماه هنري لورانس ولم يسمها حملة)
القاهرة مقارنة ببقية مدن مصر هي المركز الذي يضم النخبة بأنواعها كطبقة بورجوازية (الأثرياء) والتي تتحكم بالقطر كله، أما ما كان يقلق هذه النخبة هو أن سكان القاهرة في هذه الأثناء كان عددهم مائتين وستين ألفا، منهم ستين ألف من البوليتاريا (فقراء) وهم من البؤس بحيث أنهم يسهل انقيادهم من قبل أي أحد يمنيهم بالحصول على امتيازات ما، ولما لا وهم المعدمون الذين يتوقون لأي بارقة أو انفراجة، فكانوا يعهدون إلى مشايخ الطرق الصوفية بضبط نزق هذه الطبقة.
نابليون يتخذ من سكن مراد السابق بالجيزة سكنا له ويعيد انتشار جيشه على ضفتي النيل كما ينشأ قاعدة عسكرية في جنوب الجيزة تحسبا لهجوم محتمل من مراد بك، وبعد الاستيلاء على الأرض يبدأ في الاستيلاء على الأموال، فبدأ بتوزيع الأختام والسيطرة على جميع الموارد الضريبية واعتبار ممتلكات المماليك ممتلكات عامة كما حدث مع السياسيين المنفيين الفرنسيين.
وتم طمأنة نساء المماليك على أنفسهم وممتلكاتهم فقامت إحداهن بإهداء القائد الفرنسي ماسة شكرا له.
وعندما وصل نابليون القاهرة أقام في قصر محمد بك الألفي بساحة الأزبكية، سكني الأعيان من المماليك والأمراء المماليك، وكان القصر جديدا ولم يكن اكتمل تهيئته للإقامة فيه.
قام القائد العام بالكتابة إلى حكومة الإدارة بفرنسا عن زحفه الظافر للقاهرة وتمكن القوات الفرنسية من مصر كما كتب عن ثروات مصر الممكنة بالرغم من الفقر الرهيب للسكان وأشار إلى وجوب الاستثمار الرشيد، كما أشار إلى ضرورة سفر مبعوث ما من قبل الحكومة الفرنسية إلى الخليفة العثماني لتسوية الأمر معه حتى لا يحاربهم.
وبعد التمكين من بلد كاد أن يخسرها أثناء مروره ببعض المناطق فضلا عن الحالة المعنوية السيئة لجيشه ما تطلب منه أن يظهر بينهم برباطة جأشه حتى يبث فيهم الحماسة التي فقدوها، وأكثر من هذا ما بلغه من شائعات منتشرة بأن زوجته تخونه، فكتب لأخيه جوزيف رسالة يصف فيها معاناته وإحباطه:
"حاول أن توفر لي منتجعا ريفيا حال وصولي، إما قرب باريس أو في بورجونيا، فأنا أريد قضاء الشتاء هناك والخلو إلى نفسي، إنني متبرم من طبائع البشر، أنا بحاجة إلى الوحدة والعزلة، والأمجاد تصيبني بالضجر، وينابيع الحماس تجف، والمجد بلا مذاق في التاسعة والعشرين، لقد استنفدت كل شيء، ولم يعد أمامي غير أن أصبح متوحدا حقا، إنني أريد حماية بيتي، فلن أدعه أبدا لأي كان ولم أعد أملك ما يبقيني على ظهر الدنيا"
ورغم الروح الانهزامية التي غلبت على نابليون وجيشه فإنه لم ينسى نصائح المستشرقين له كي يبلغ التمكين من مصر، فلابد أن يتغلب على ثلاث عقبات وهي الباب العالي والانجليز والمسلمين أنفسهم، والأخيرة هذه هي الأصعب والعقبة الكئود لأنها ستؤدي إلى الكثير من الخسائر ما يجعله لا يستطيع التغلب عليهم.
وعلى أثر هذا التحليل استمع إلى نصائح مستشاريه والذين هم مستشرقون بالأساس بدغدغة مشاعر المسلمين عن طريق دمج الخطاب الثوري الفرنسي بالرطانة السياسية الإسلامية المصرية.
وفي التو والحال يصطدم نابليون بعداوة السكان المطلقة، فالمماليك فروا سريعا إلى جنوب مصر واكتفت انجلترا بالمراقبة وبذلك ليس أمامه إلا استمالة المسلمين عن طريق علماء الدين والفتوى حتى يتولوا تفسير القرآن بما يناسب جيش نابليون، ومنذ إحدى عشر سنة قال أحمد باشا الجزار للباب العالي أن عماد السلطة هم كبار العلماء ومشايخ الأزهر لأن هؤلاء هم من يصوغون الرأي العام، مما جعل نابليون يقول عنهم "سوربون الشرق"
وهنا يضع نابليون يده على مربط الفرس فيجري تشكيل ديوان مؤلف من علماء وكبار الموظفين وليس بهم مماليك.
نابليون القائد العام قرر:
تحكم القاهرة من ديوان مؤلف من تسعة أشخاص.
يجتمع الشيوخ السادات والشرقاوي والبكري والصاوي والفيومي والعريشي وموسى السرسي ونقيب الأشراف عمر مكرم ومحمد الأمير في دار كيايا الشويد ويشكلون الديوان.
هؤلاء يعينون واحدا منهم رئيس، وأمين من خارج صفوفهم، وأمينين مترجمين يعرفان الفرنسية والعربية.
وعند باب الديوان يوجد حرس فرنسي وآخر تركي.
وفي المساء يجتمعون مع الحاكم العسكري الفرنسي ليقسموا يمين الولاء بعدم فعل شيء يتعارض مع مصالح الجيش الفرنسي.
ورغبة من نابليون في إرضاء الباب العالي فقد عين اثنين من كبار الموظفين العثمانيين في الديوان.
ثم يتوالى تطبيق النظام الإداري بعامة وكذلك الشرطة في أنحاء مصر، ففي كل مكان وكل تنظيم يؤول إلى المحتل الفرنسي ممثلا في شخص ما منهم.
تعامل المصريون مع الوضع الجديد فأنشأوا محال المأكولات والمشروبات حول ثكنات جيش نابليون، أما محلات الخمور فقد تخصص فيها المسيحيون وغلب على ترتيب الكراسي والموائد والأسعار المعلن عنها إدخال أسلوب الحياة الأوروبي، ولم يخلو الأمر من تندر وسخرية الجنود داخل ثكناتهم من الشعائر الإسلامية فكانوا يقلدون صلاة المسلمين دون أن يشعر السكان بذلك.
جرت عملية إحصاء للمتلكات العامة وتم فرض ضرائب باهظة على تجار المدن الرئيسية، كما تم مصادرة أسلحة المصريين ومن يخالف ذلك يتعرض لعقوبة مائة جلدة ولغرامات فادحة، فإن حاز أحد المصريين على مدافع أو احتياطات من البارود فإنه يعدم مما رفع من حالة السخط لأنه في هذا الوقت كان يعتبر أن الرجل لا يكون كاملا إلا إذا حاز سلاح ما.
وجود المحتل هو أمر غير شرعي لذلك لا يأمن جانب السكان مهما بدا له أن الوضع مستقر لذا وضع نابليون مع قادة جيشه خطة لمواجهة أي حالات تمرد أو استنفار تمكنهم من السيطرة على مصر في وقت وجيز.
وعن استبداده العادل كتب نابليون لمينو مفاخرا بذلك فقال:
"إن الأتراك لا يحسنون التصرف إلا عبر أكبر قدر من القسوة، إنني أصدر الأمر كل يوم بقطع خمس أو ستة رؤوس في شوارع القاهرة، وكان قد تعين علينا حتى البارحة أن نراعي جانبهم سعيا إلى تبديد سمعة الإرهاب تلك التي سبقتنا، أما اليوم خلافا لذلك فلا مفر من استخدام اللغة الملائمة حتى ينصاع هؤلاء الناس، والانصياع بالنسبة إليهم مستحيل دون الخوف.
وللحديث بقية إن شاء الله



Post A Comment: