الكاتب و الناقد السوري محمد فاتح زغل


قراءة في زاوية حادة 
التوازن الأشد حساسية بين الأدبي والفكري  
اطلعت على العديد من القراءات النقدية التي تناولت رواية "إيميسا" للروائية السورية هلا أحمد علي أستاذة الفلسفة في جامعة تشرين. وكنت انتهيت من قراءتها قبل شهرين، ولظروف متعددة حالت دون الكتابة عنها وعن الانطباع الذي تركته في نفسي، محاولاً التفلّت من المفاصل التي سبق أن تناولتها القراءات النقدية السابقة عن الرواية، رغم مغريات البحث النقدي في هذه الرواية، لكونها أثارت العديد من الأفكار التي تحيل في العمق إلى تلاقحات فكرية وتاريخية وسياسية واجتماعية وحضارية مع ما يستضمره ذلك من جـدل تـاريخي وسياسي بين ثنائيات الاخـتـلاف والـقـبـول أو الهيمنة والتبعية.
ولا بد من التأسيس بداية أن الرواية العربية اكتسبت بعداً جديداً عندما دخلت المرأة العربية هذا اللون الإبداعي، فمنحته طاقة جديدة وفتحت فيه فضاءات واسعة لرؤية جديدة للحياة بكل ما فيها من تعقيد واتساع، متناغماً بما تحمله المرأة من خصوصية تتمثل في هواجسها وخيباتها وتطلعاتها، حتى يمكننا القول إن الرواية أضحت لسان المرأة العربية وممرها إلى عالم الفن والحياة والتاريخ والسياسة.    


                               
ولأن الرواية تمتح من التاريخ السياسي والاجتماعي والاحتراب البغيض الذي ترك أثره في البنى الاجتماعية والفكرية والسياسية فعمق الإقـصاء وأحيا سنن القبيـلـة والفـتـن الأهـلـية والطـائـفـية والنزعات الإرهابية، ولهذا فإن الرواية قاربت هذه الأفكار في أكثر من مدخل عبر شخصيات الرواية وعبر الأحداث ومن خلال الأمكنة التي استنطقتها، والهدف تحصين الأجيال القادمة وبث روح الجماعة والتآلف ليكون الغد أجمل وأنقى. 
"كان ثائر مؤمناً أن الحروب تضع الإنسان أمام حربين: إحداهما خارجية وأخرى داخلية، وفي الحالتين عليه أن يواجه ويقاتل حتى النهاية وهذا ما فعله ثائر ولا يزال يفعل.. الحرب بالنسبة له كانت أكبر من الكلمات الجوفاء والنظريات والمفاهيم والكلمات".
ولأن القراءة زاوية حادة وليست منفرجة بحكم أنها ستنشر على صفحة التواصل الاجتماعي، حيث لا يمكن الإفاضة في السرد مدركاً أعطاب الرؤية محاولاً التركيز على مفصل واحد من مفاصل الرواية معتذراً للدكتورة هلا عن هذه الرؤية غير المكتملة لرواية قالت الكثير، ومن اللياقة وحسن المعالجة أن تنال حقها في الدراسة والقراءة المتأنية، وأعدها بتقديم رؤية بزاوية منفرجة عنها تعمل على تحديد هوية الرواية المغايرة، وتفصيل ما أضافه هذا المنجز وفرادته في معالجة مرحلة حاسمة في تاريخ سورية والذي كان بين 2012 و2018، وعبر أمكنة جغرافية محددة بين حمص وغوطة دمشق، لكنها على كل حال هي ملامح بلد مزقته الحرب، وهنا تكمن خصوصية هذا المنجز الروائي في مفارقته لمنطق النمطية ليكون مغايراً ومختلفاً ويستحق القراءة المتأنية. 
سأحاول إذن تعميق التصور فيما بدأته سابقاً وطرح الأسئلة بصوت مرتفع قليلاً: 
هل تمكنت الرواية من رصد الواقع دون المرور عبر الأدلجة السياسية والوطنية التي تنتمي إليها؟ 
وهل فعلاً نجحت في رصد الواقع كما هو دون تقزيمه؟ 
وإذا كان الموضوع كذلك فهل أثّر ذلك على تقنيات العمل الفني في إخضاعه لحسابها؟
وهل يعني ذلك أن نطالب الكاتب أو الروائي بالاستقالة من دوره في بناء الوعي الجمالي والفكري وعدم التورط في قضايا الحرب والسياسة؟ 
وهل نجحت الكاتبة في تحييد موقفها الشخصي عبر تمريره بصورة سلسة عبر السرد والحوار وبذلك تكون نجت من الوقوع في براثن المباشرة  وظلت جماليّات النص قائمة؟ 
قد يبدو الجواب جزءاً من الأسئلة ذاتها وهو يمنحنا الإشارة إلى أن عبور الرواية بين هذه الأسئلة كان عبوراً سلساً عبر جامع مشترك بينها.. جامع بين الإيديولوجي والأدبي وهو المنحى الإنساني دون أي اصطفاف أو موالاة، وبذلك نجت الرواية من الأدلجة وكان هذا أول امتحان لها إذ إن بعض الروايات التي عالجت الواقع السوري راحت تقيس الأدلجة والانتماء الفكري للكاتب على الواقع فقزمته، ولعل تقزيم الواقع في رواية الحرب والسياسة هو أخطر مزالق الرواية حين رصدت حال الحرب السورية عبر أيديولوجية الكاتب. 
"ما زالت المدينة الجميلة المعروفة بطيب سكانها وحسن معشرهم تشيع أبناءها ممن ذهبوا ضحية التفجير الإرهابي في ديسمبر 2017، عكرمة حزينة، وحمص حزينة النار لا تميز بين مؤمن وكافر وأقلية وأكثرية ورجل وامرأة وشاب وشيخ ومذنب وغير مذنب.. عشوائية الموت وعبثية الأقدار مسألة لا يمكن أن يناقشها أو يفسرها منطق الحرب القائم أصلاً على اللامنطق.. ومتى كانت الحروب منطقية".  
إن جمالية هذه الرواية تتمثل في كونها الرواية التي تقوم بنيوياً في نقطة التوازن الأشد حساسية على الإطلاق بين ما هو "أدبي" وما هو "فكري" محتفظة بكل التوترات والسمات الضرورية لهويتها ووظيفتها داخل عملها.
يقول كونديرا: "الروائي ليس ناطقاً باسم أحد، بل إنني سأذهب في هذا التأكيد إلى درجة أن أقول إنه ليس ناطقاً باسم أفكاره الشخصية". وهذا ما حققته هذه الرواية 
"الساعة السادسة صباحاً على أوتوستراد المرة في دمشق ، سيارة بيجو بنمرة غير واضحة تماماً تتبعها دراجة نارية يقودها شاب يضع كاسكيت بيضاء، زاد سائق السيارة من سرعته حين لاحظ اقتراب الدراجة أسرعت الدراجة أكثر حتى صارت بمحاذاة السيارة من الجهة اليسارية، حيث النافذة غير مغلقة تماماً عبر النصف المفتوح من الزجاج، تشابكت نظرتان إحداهما مريبة والأخرى قلقة، يد السائق الذي تحسس زر إغلاق النافذة كانت أبطأ من تلك التي أطلقت رصاصة على إثرها اصطدمت السيارة بالمنصف، علا بوق السيارة معلناً صمت الرأس المرتطم به.. لم تمض ثوان قليلة حتى تلون المقود بالأحمر".  
الإجابة الثانية للأسئلة التي قدمتها تقول إن فعل سرد الأحداث التي جرت إبان الحرب السورية هو امتياز رسمي لا يبتعد عن ظلال المؤسسات الحاكمة المحلية أو الوطنية، إلا أنها في الرواية عبرت من خلال المنحى الإنساني إلى قراءة الواقع بصورة محايدة وأعادت تشكيل تفاصيل الوقائع فالمكلوم أعرب عن حقه في الصراخ، والبطل هو إنسان قد يضعف وقد يخطئ، وهو متعرٍّ إبداعياً من كل تنزيه أو تقـديس. ولذا فإن ما تميزت به هذه الرواية أنها سردت حكايات من سقطوا من متون المؤرخين دون أن تكون البطولة لأي من شخصيات الرواية، فالجميع منصهر في النص الروائي، حيث لم يكن البطل أحد عسكريي الجيش السوريّ الذي يحارب إرهابيي جيش النصرة والمتطرفين الدينيين، ولا هو  "ماهر" العاشق، أو "أحمد" الذي استشهد في الحرب، أو "سلاف" الخياطة الحسناء، أو "آكري" العسكري الكردي الذي يؤمن بتقسيم سورية، أو "ثائر" العاشق المخذول، أو "لينا" الخائنة اللعوب، أو "أم ماهر" والدة "سلام" المخطوف، أو "أم جميل" المحررة من خطف المجموعات الإرهابية، أو "أم هشام" التي تعرضت للاغتصاب، أو "سهر" زوجة الشهيد، أو "سماح" العاشقة التي تتنقل بين حمص ودمشق، أو شخصية "وليد" حبيب سماح، الأكاديمي الذي تحول من مفكر إلى إرهابي، هؤلاء كلهم كانوا في المشهد الروائي ولعبوا أدواراً في الحرب السورية، بينما بقي الوطن هو الخاسر الوحيد. 
 هذا الاتساع في أفق المشهد الروائي هل أثقل الرواية وأتعبها فعلاً؟ وهل شكل فعلا ًضغطاً على القارئ؟ .. ربما في بعض الجزئيات الصغيرة كان كذلك، ولأن التاريخ المسرود قريب من القارئ، فالأحداث معيشة طازجة ولم نلحظ أنه أخل بوظيفته، وربما يكون القارئ غير السوري الذي لم يشهد هذه الأحداث وتفاصيلها قد أضاع البوصلة في بعض محطات الرواية. 
لقد حافظت الرواية على قولبة تفاصيل الحياة إبان الحرب السورية في جزئياتها البسيطة والعادية والأليفة والأحداث بالـوجـود الإنساني، وأعادت عند استدعائها للمادة التاريخية حضور الذات الـفـاعلة وجـدانياً وفـكرياً واجتماعياً وتركت للذوات الفاعلة في الرواية أن تقول بحرية ما تريد دون أن تكرهها على ارتداء أدوار القادة أو تلبس لبوس أزياء البطولة إلا في بعدها الإنساني  حيث البحث عن الحياة الأكثر إنسانية للإنسان. 
تقول الكاتبة هلا: "في الحرب الجميع مذنبون والكل خاسر، لكنني بلا شك حاولت أن أقدم إحدى صيغ الخلاص، وهي قبول الكل للكل؛ لتشرق شمس السلام مُجدداً".
إن فعل الكتابة باعتباره مجسداً للوعي الإنساني هو هنا في الرواية يعيد التأسيس لمورثات ثقافية جديدة، بإعادة صياغة النواظم التي تربط بين بني البشر. فكما تم التأسيس لمورثات الكراهية عبر نصوص كثيرة، يمكن الشروع في التأسيس لمورثات المحبة، وتعميمها لتأخذ أبعادها في الحياة القادمة.
 "يقولون إن الأصعب من أن تفارق الحياة هو أن تفارق رغبتك في الحياة وإرادتك في تحدي مصاعب الحياة.. استدارت نحوه حين سمعت صوته الجهوري الواثق رغم حزنها العميق على أم هشام إلا أن ابتسامتها تسللت إلى سطح جرحها وهي تمد عنقها مرحبة بالقادم بعد غياب". 
هذه القراءة التي وضعتها في إطار زاوية حادة سلطت الضوء على بعض مفاصل الرواية إذ لا يتسع المقام هنا للحديث أكثر. ومنذ لحظة التصفح الأولى، حيث القراءة العاشقة لأي عمل روائي فإنها قد لا تمتلك عند القراءة الأولى إنتاج القراءة النقدية الرصينة، فثمة ما يقال الكثير. 
كما أن هناك تناغماً لا بد أن يقع في أي قراءة نقدية بين الذات الكاتبة وشغفها في الكتابة وغواية اللعب، والذات القارئة التي تنقاد إبداعياً إلى متعة التذوق وشغف القراءة، وبين الذات الناقدة التي لها الأهلية لتقديم رؤية موضوعية عن الرواية عبر روائز تستقوي بها وما تتزود به من رزانة علمية وخبرة موضوعية ورؤية تأويلية.
المقال هنا جزء من دراسة نقدية مطولة أعددتها عن رواية "إيميسا" للروائية السورية هلا أحمد علي، من إصدارات دار التكوين في دمشق 2019. 


             الروائية السورية هلا أحمد علي



         






Share To: