إن محاكمات الغربان جزء من سلوك وحياة تلك الطيور التي يؤكد العلماء على ذكائها الشديد والذي يُرجعه البعض لكبر حجم أمخاخهم التي تحتل نصف مساحة الدماغ.
كما أن العلماء يعتبرونها من أذكى الطيور على الإطلاق وبلا منازع، حيث أنها سريعة التعلم تمتلك ذاكرة جيدة جدًا وقادرة على التمييز بين الأشخاص وتستطيع استخدام الأدوات والعدّ حتى رقم 9.

وعلى هذا فإن قوانين الغربان ومحاكماتهم تمثل جزء من منظومة أخلاقية... 
نعم أخلاقية وهذا ليس بغريب على الحيوانات.... 

عذرًا، فالأخلاق ليست حكرًا على البشر، فالحيوانات وخاصة التي تعيش في قطعان كبيرة لها قوانين تحكمها وأغلبها قوانين أخلاقية، إن لم تكن جميعها، تتعلق باحترام القائد، وحماية الصغار والدفاع عن القطيع وعدم الاعتداء على إناث الذكور الآخرين، أو سرقة الطعام والاستئثار به دونًا عن البقية.

لكن طريقة التعامل مع المخالف تختلف من حيوان لآخر.
فالقطط الكبيرة كالأسود والنمور والفهود، تستعمل أسلوب مبارزة الخصم، بما يعني القتال وجهًا لوجه بين القائد والمخالف، وتبعًا لقاعدة المنتصر يحكم، أو الحُكم لمن غٙلبْ كما نقول، فإن المهزوم ينسحب حتى لو كان الأب وقائد القطيع..

بينما في عالم الذئاب فإن الفرد المُخالِف لقوانين القطيع يتم إبعاده بعد إعلامه بأنه منبوذ تمامًا لمخالفته قوانين القطيع، وذلك باستخدام لغة إشارية جسدية له مفرداتها الخاصة بين الذئاب... 
ويستسلم المتهم صاغرًا لرغبة القطيع ويغادره ليبقى في الغالب وحده حيث يصعب عليه الانضمام لقطيع آخر، اللهم إلا إذا وجد وليفة وأسس معها أسرته الجديدة، أو قبيلته الصغيرة.

في عالم الغربان الأمر يختلف، فالمحاكمة تنتهي بإعدام المتهم بعد ثبوت التهمة الموجهة إليه، حيث يلتف حوله الغربان ويقومون بنتف ريشه ونقره نقرًا متواصلاً حتى يموت، ثم يقومون بدفنه في مشهد جليل يبعث على الرهبة، ويدعو للتأمل...

ما ذكرني بالأخلاق والمحاكمات والقوانين الأخلاقية الحيوانية قراءة لدراسة أجراها العلماء في جامعة ماساتشوستس الأمريكية عن القيادة الذاتية للسيارات، حيث أوضحت الدراسة أن معظم الناس يرغبون بالعيش في عالم تقلل فيه المركبات ذاتية القيادة والتوجيه الخسائر ولكنها في نفس الوقت تحميهم وتقطع الطرق بهم سريعًا...
فعندما عرض العلماء سيناريو يفترض أن السيارة المبرمجة للقيادة الذاتية وُضعت في موقف يعني الاصطدام بأحد المشاة أو الانحراف عن الطريق وبالتالي ربما اصطدام السيارة نفسها وإصابة أحد ركابها؛ وجد العلماء أن آراء عينات من شرائح مختلفة محل الدراسة، تتخذ النهج النفعي الشمولي بدلا من أخلاقيات السلامة، أي أنهم يفضلون سيارات ذاتية القيادة وصديقة للمشاة بقدر الإمكان، باستثناء المركبات التي يقودونها هم أنفسهم.

وهذا ما أسماه العلماء بالمعضلة الاجتماعية الأخلاقية، والتي تعني ببساطة أن الناس يتسببون في جعل الظروف أقل أمنًا للجميع من خلال الاهتمام بمصلحتهم الذاتية فقط.. وهذا ما يعني مأساة بالنهاية، حيث لا تقلل السيارات من المخاطر لا لركابها أو للمشاة..

أظهرت النتائج أن 76% ممن شاركوا في الدراسة أعربوا عن اعتقادهم بأن الأكثر أخلاقية أن تكون السيارة مبرمجة على تفادي إيذاء عشرة مشاة، والتضحية براكب واحد، لكن بالوقت نفسه أظهرت النتائج عدم وجود الحماس لشراء سيارة بتلك المواصفات، أو استخدام سيارة مبرمجة لحماية المشاة على حساب الركاب؛ بحيث انخفض التقييم للثلث عندما وضع المشاركون في اعتبارهم إمكانية ركوب هذه السيارة..

أي أنه ... 
«جميل أن يكون هناك ما يضمن معايير سلامة الآخرين، ولكن شريطة ألا يمسني هذا! أو يؤثر على سلامتي الخاصة، أو سلامة سيارتي».. 
بعبارة أخرى:
«لو أنني صاحب تلك السيارة فالأمر يختلف»..

ذكر العلماء أن الأمر يشبه دفع الضرائب، نعم! الكل يعتبرها نظام جيد وله ضرورته لكن شريطة ألا يدفعها بنفسه..

عندما طُلِبٙ من المشاركين الاختيار بين سيارة مبرمجة لحماية المشاة، أو سيارة تحمي ركابها، كان الاختيار الأكبر هو الثاني...

العلماء يقولون أن المشاركين بالدراسة لا يدركون الصورة الأكبر... 
المركبات ذاتية القيادة لديها القدرة على خفض كبير في حوادث السيارات والوفيات من خلال القضاء على الخطأ البشري... 
وفي هذا حماية للجميع بشكل عام..

تعالوا ننظر للأمر من وجهة نظر الفارس الأسود وأعني به الغراب، كما يُطْلٙق عليه أحيانًا..

الغراب المعلم الأول للبشر، ماذا سيخبرنا لو امتلك القدرة على الحكم على نتائج الدراسة، التي وضعت أخلاقياتنا على المحك؟!

عندما فكرت في الأمر، وجدتني اذهب إلى ما لاحظته في تصرفاتنا كبشر حيال أمور معينة تمس سلامتنا الشخصية أو سلامة من نحبهم ونهتم لأمرهم، الإنسان بشكل ما ذاتي التقدير لنفسه ولرغباته ولأمنه الشخصية، وربما على حساب سلامة وأمن الآخرين، إنه يُؤثر نفسه أولاً، حتى لو كان واحدًا من المجموع، فإنه في النهاية يفكر بنفسه ولنفسه فقط. 
كما أنه أناني إذا ما إذا مسّت القوانين حياته بصورة أو بأخرى، نعم يسهُلْ عليه وضع القوانين ولكن يصعب عليه الالتزام بها، بينما يصعب حدوث هذا في عالم الحيوان، وفي النماذج التي قدمت لها وعلى رأسها الغراب يصعب بل يستحيل أن يرفض الغراب الجاني تنفيذ الحكم، أو يرفض المحاكمة نفسها، على العكس من هذا إنه يمثُل أمام المحكمة خافضًا رأسه بين جناحيه، صَامتًا تمامًا لا ينعق بصوته اعترافًا بذنبه..
بينما يقوم الذئب المنبوذ المغادرة باستسلام منصاعًا لرأي الجماعة، وقرارها.. 
حتى الأسد الذي هو كبير القطيع يقبل الهزيمة بروح طيبة، ويقبل أن يكون واحدًا من باقي القطيع تحت حماية القائد الجديد الذي هو في الغالب واحد من أشباله الصغار... 
ببساطة لأن قبول الحكم النهائي يعني حماية جميع أفراد القطيع، ويعني الحفاظ على أمن وسلامة كل فرد فيه..




Share To: