إنّ الدارس والباحث في حياة أبو العلاء المعري، يجد نفسه يقف أمام شخص عميق المعرفة، ذو ثقافة موسوعية، ساهمت فيها ذاكرته الخارقة التي لا تترك شيئا دخل إليها ينسل منها، فما سمع ، كما يقول هو نفسه، شيئا إلا حفظه وما نسي شيئا حفظه.
رجل سريع البديهة، لا يكل ولا يمل من التساؤل حول ثوابت وبديهيات لا يُقبل التساؤل حولها، وأجوبته ، سهام ، غالبا ما تكون أمضى من السيف، مُتسمة بنوع من الذكاء، لهذا تمر مرور الكرام على الجميع إلا على المستهدف فهي تصيبه ، إن صح القول ، في مقتل.
وما أكثر سهام المعري التي أجاد تصويبها !!
في هذا الإطار هناك حكاية يذكرها المفكر والأديب المغربي عبد الفتاح كليطو، الغني عن أي تعريف ، في كتابه " أبو العلاء المعري أو متاهات القول " نقلا عن الياقوت في معجم أدبائه جاء فيها بتصرف مني : أن أبو العلاء كان يحب المتنبي ويتعصب له كثيرا، وكان الخليفة المرتضى يبغض المتنبي وينتقص منه كثيرا في مجلسه. وذات يوم في مجلس المرتضى عاب المرتضى شعر المتنبي بحضرة أبو العلاء . فقال أبو العلاء : لو لم يكن للمتنبي من الشعر إلا قوله: " لك يا منازل في القلوب منازل " لكفاه فضلا . فغضب المرتضى وطرد المعري بطريقة قاسية تحت استغرب الذين كانوا هناك ، فالرجل يبدو أنه لم يقول شيئا يستحق هذا الطرد ، وذلك لأنه لم ينتبه أحد من الحاضرين إلى ما قصده المعري من وراء هذا البيت الشعري إلا المرتضى الذي قال للحاضرين أن المعري قد كان داهية ، إذ أنه لمح بدون أن يعلن بشكل صريح إلى البيت الشعري الذي يقول فيه المتني: "إذا أتتك مذمتي من ناقص / فهي الشهادة لي بأني كامل" . فالدهاء – كما يقول الكاتب الليبي إبراهيم الكوني – أن نلمح لا أن نقول.
هكذا هو أبو العلاء المعري، مميز بدهائه وعبقريته، مثير للجدل بآرائه وتصوراته، زد على ذلك أنه مختلف في نمط عيشه وأسلوب حياته عن معظم الناس في عصره . كيف ذلك ؟ يتجلى هذا الاختلاف في أنه لم يتزوج مثلما يفعل الجميع ولم ينجب أبناء، وطبق على نفسه حياة الكفاف والتقشف :
كان نباتيا، يرفض أكل اللحوم ويعتزل لأكثر من أربعين سنة في بيته لا يبارحه.
ذلك ما دفعه أن يسمي نفسه " رهن المحبسين" أي سجين العمى والبيت . وأضاف إليهما فيما بعد محبسا ثالثا وهو الجسد. وسبب اعتزاله يعود إلى أنه ضاق ذرعا بالناس سيئوا السمعة الذين ناصبوه العداء والبغض والكراهية ، لماذا ؟ بسبب صراحته وصدقه لذا كان يُحس بأنه غريب في أرضه . وبالتالي فاعتزاله لم يكن باختياره مثل عماه الذي أصابه إثر مرض الجذري الذي شوه وجهه وتركه بندوب لا شفاء منها. علاوة على ذلك، كيف لشخص دو نزعة موغلة في التشاؤم حد التطرف، أن لا ينعزل، فقد رأى الحياة بسوداوية تامة، فهي في نظره جحيم لا يطاق، شقاء وشر وإثم، دار الآلام والعذاب والعناء.
لذا نجده ، في أكثر من موضع، طالبا أن يطرق الموت بابه عاجلا وليس آجلا فقد تأخر أكثر مما ينبغي، فالخلاص لا يأتي إلا عن طريق الفناء، ففي الموت راحة من شقاء الدنيا.
وقد كان يوصى، أنه حينما تخطف الموت روحه، أي عندما تتحقق أمانيه التي طال تحققها أكثر مما يجب، أن يُكتب على قبره بيته الشعري :
هـذا جنـاه أبي علي ومـا جنيت عـلى أحـد
كأنها صرخته، رفضه، استنكاره الأخير، الذي يحاول حتى وهو في قبره أن يشهره ليس في وجه أبيه فحسب، لأن أبيه كان قد توفي والمعري على قيد الحياة ، بل في وجه جميع الأباء .
مُذكرا الأباء بأن ما هم مقبلين عليه، هو إثم في حق الأبناء، وذلك بجلب هذه المخلوقات البريئة ، الملائكية، الى هذا العالم الفظيع، الشيطاني، المليء بالشرور وغياب المعنى، الذي يحول هؤلاء الأطفال إلى كائنات فظيعة شيطانية، لهذا قال الكاتب المغربي محمد شكري في رائعته الخبز الحافي " لقد فاتني أن أكون ملاكا " وذلك لأنه لم يمت صغيرا مثلما مات أخوه .
لقد حوله العالم الى كائن مدنس، لم يعد ذلك الملاك الذي كانه وهو طفل صغير، لم يعد بريئا، لقد أفسده. الأمر نفسه حدث للمعري، لقد حوله العالم الى كائن سوداوي، متشائم، كاره للبشر ولنفسه أيضا، رافض للحياة . لهذا فهو يعتبر أن والده من كان سببا في ذلك ، متجنبا في الآن نفسه أن يقوم بنفس الخطأ، مكسرا هذه الحلقة المفرغة، رافضا اللعب في هذه المسرحية السخيفة .



Post A Comment: