لم ينتبه للسمنة التي غزت جسمه في صمت كالمرض الخبيث، قابلها بلا مبالاة مرضية وكأنها مرحلة ستمر، يقول باستمرار «كم حاجة قضيناها بتركها».
بدأ يستأنس بِبدانته المفرطة، لشراهته في الأكل وملازمته صديق عزلته، قبر حياته وفنائه، سريره الخشبي القديم الذي أصبح محدودبا متقعرا ليحتوي تلك الأكوام المتراكمة التي فقدت تضاريسها الأصلية وكأنها تعرضت لانفجار بركاني أخرجت أحشاءه ففاضت لتملأ المكان فوضى.
لا تكاد تفرق بين أجسام ثلاث، ملتصقة ببعضها تجمعها جاذبية وحميمية نادرة كحب ثلاثي ممنوع؛ جسمه، السرير وجهاز التحكم عن بعد في التلفاز الذي صار جزءا لا يتجزأ من كفه، مخفيا بأصابع لا تهدأ من السفر عبر أزراره لترى العالم الخارجي.
في كل مرة يحاول اقتلاع جسده بعناء من بين أحضان قبره يسترسل ساعاتٍ طوالًا في التفكير لإقناع نفسه أولا وتهيئتها قبل الخوض في مفاوضات شاقة مع بقية جسمه.
تبدأ مفاوضاته ككل مرة مع أطرافه الرخوة اللزجة حتى يصل إلى اتفاق يحس معه بنشوة ممزوجة ببعض الزهو. فقدرته على إقناع يده اليمنى لتلتحق بأختها اليسرى في الضفة الأخرى من جسده، عمل عظيم لا يمكن أن يحدث إلا بقدرة قادر لتأتي المرحة الموالية التي تعتبر من سابع المستحيلات؛ إقناع رجله اليمنى لتتسلق رجله اليسرى. لم يعد يستطيع رؤيتهما منذ زمن بعيد، أصبحت لغة التواصل بينهما لا تتعدى الإحساس الميكانيكي، الذي بدأ يفقده شيئا فشيئا وينتظر تلاشيه كمن ينتظر يوم إعدامه.
أغمض عينيه بشدة وفتحها كأنه يطرد كابوسا. حركة تبناها مع مرور الوقت، تساعده في قلب صفحة أفكاره أو سحبها من الذاكرة، كمن يرمي ملفا من الحاسوب في سلة المهملات، لا يستطيع تحملها، لا يستسيغها، تخيفه كما يخيفه كل ما يتعلق به، بجسده، بحياته، بغيره...!
غيره؟
ومن غيره في هذا الكون سواه وذلك العالم الذين يراه خلف شاشة التلفاز، يسيره كما يريد بجهاز التحكم عن بعد، وتلك المرأة التي بدأت زياراتها تتباعد مع الوقت إلى أن تلاشت. كانت لا تنطق ببنت شفة، بكماء صماء، باردة كآلة، تأتي لمساعدته وتقريب ما يلزمه ليصبح في متناول يده بتوجس وحذر وكأنه هو الوباء بعينه، لتنصرف بعد ذلك بسرعة كما جاءت، لا تكاد تلقي عليه نظرة، تتجاهله رغم غزو جسده وملئه للمكان.
هل أختارها ذلك الوباء المتقلب المزاج دونه لتكون قربانا لنزواته الرعناء كغيرها من أضحيات هذه المدينة الشبح؟ هل أجبرها على لعب الروليت الروسية بنفس المسدس الذي حصد الملايين في فترة قياسية ليتركه لأفكاره تنهش عقله وتدمر ما بقي لذيه من خلايا؟ يجثم على أنفاسه وأنفاس المدينة بل أنفاس العالم برمته ليجعله شبه مهجور ، هل هي محاولة لتخليص الطبيعة من شرور الإنسان وإعادتها لأصلها؟ هل يجب عليه انتظار دوره كمن سبقوه أم يختصر معاناته؟ فأحس بنقطة عرق تصل إلى ذقنه بعدما نزلت من منبت شعره مخترقة حاجبه وعينه اليسرى ثم خده، ساخنة، تتحسس آثارها بحرقة. تبا له من حاصد أرواح سادي يتلذذ بتعذيبه بذل أخذ روحه ليتركه لنفسه، لجسده جلاده، لهواجسه وكوابيسه التي تلازمه كظله!
ـ ظلي؟
تذكر فجأة أنه لم ير ظله منذ زمن، فقام بإغماض عينيه لطرد هذه الأفكار اللعينة التي تجرأت على مداهمة فكره.
استأنف ما كان يهم بعمله منذ حين. حث رجله ودفعا لِتُلَثَّم ثم تركب رجله اليسرى، وتتجاوزها لتخرج من حيز السرير لتلقي بنفسها باتجاه الأرض كأنها يُرمى بها إلى التهلكة، فتسحب بذلك كل الجسم وراءها، حتى إذا ما لامست الأرض، تصبح الركيزة الأولى والأخيرة لإيقاف هذه القوة الدافعة بعشرات أضعاف أكوام اللحم المتدفقة التي تزيد من قوة الدفع.
الركيزة التي خلقت هذه الحركة الفريدة والشجاعة في سحب الجسم خارج السرير لإيقاف انجرافه في الوقت المناسب قبل أن يسقط على الأرض، هي نفسها الركيزة التي ستخور قواها كغصن جاف سريع الانكسار، كحامل الأثقال الذي يهوي تحت أثقاله، لولا نزول الرِّجْل الثانية في الوقت المناسب لمساندتها وتثبيت عزيمتها، يساعدها في ذلك غرز المرفق في اللحاف وتشبث اليدين المستميت بحافة السرير.
تصبب عرقا كمن أخد حماما باردا، التصق لسانه بحلقه، وضج تنفسه بصفير وزفير كثور الكوريدا، يلفظ أنفاسه المتقطعة في سباق مع دقات قلبه الصاخبة التي تكاد تمزق صدره، متزامنة مع آهات لاهثة متتالية مع كل تحرك أو تململ يقلب أحشاءه المخنوقة تحت طبقات من الدسم المتراكمة.
أحس بألم حاد أسفل ظهره حين حاول الاستدارة يسارا وجذب جانبه الأيمن وبطنه ليقوم بحركة نصف دائرية صغيرة لا تتطلب في الحالة الطبيعية أقل من ثانية أو جزء من الثانية وقد تسبق سرعة الضوء وكل سرعات الوجود... حركة عفوية لا تحتاج حتى للبديهة. الآن أصبحت تحتاج لمشورة أمم العالم المتحدة وغير المتحدة وإرادة جبابرة الكون مجتمعة لإقناع بطنه أو بالأحرى معدته التي أصبحت تملك عقلا مدبرا خاصا بها يعلن تمردا وانقلابا على العقل الشرعي السامي وصاحبه.
أصبح الآمر، الناهي، المتجبر، المارد، المهيمن، المتسلط، شغله الشاغل الأمر بالأكل ثم الأكل، ولا شيء غير الأكل، في أوله وآخره وبينهما، في كل ساعة وثانية والجزء من المئة من الفراغ، وحتى الفراغ الذي لا يوجد يجب أن يخلق.
كان عقلا صغيرا ظريفا لطيفا ذا طلبات بسيطة يشتهي بتواضع طفل مدلل مشاكس يثور إذا لم تلبى طلباته في الحين. بعد مرور الوقت اكتشف قدرته على التلاعب والتحكم في كل شيء فأخذت تزداد رغباته باستمرار، تكبر وتكبر وتزداد قسوة وتفاقما. تملكه الشعور بالعظمة وامتلاك هذا الجسم الضخم وعبره يمتلك العالم بل هو العالم وخالق الوجود، إلهه الآمر الناهي.
بدأ يفقد الإحساس بالوقت، أصبح فائضا كجسمه، ذابت ساعاته ودقائقه وثوانيه لتشكل شيئا بلا نهاية بلا إسم، كلما تقدم خطوة ترجعه عقارب الساعة إلى الوراء، إلى حقيقته الوجودية، أصبح الأسبوع مختزلا في يوم واحد يكرر نفسه آلاف المرات لا يدري هل يتقدم إلى الأمام أم يتراجع إلى الخلف كأنه عالق في شرك عوالم متوازنة ذات مفهوم آخر للزمكان متحرك وساكن في ذات الوقت لا يعرف كيف يتصرف فيه ...ينتظر وقوع حدث ما... حتى تلك الباعوضة التي كانت تقض مضجعة في السابق بطنينها وتمتص دمه في غفلة منه أصبحت حدثا عظيما ينتظره بفارغ الصبر، ولا يأتي، أين ذهب جميعهم؟... لا شيء يحدث سوى الفراغ... يا له من فراغ قاتل...
كان زير نساء، يجعل من سريره الكبير الذي يتسع لأكثر من زوج، حلبة لمصارعات حميمية مع عشيقاته اللواتي يستبدلهن ويستنزف لذاته معهن كمن يستنزف سجائره الواحدة تلو الأخرى، تحترق ليحترق معها في نشوة تتلاشى كرماد. الآن أصبح فارغا إلا منه بل ممتلئا بأكمله به. ولم يعد يضاجع إلا أحلام يقظته وكوابيس منامه.
يغرق تدريجيا في وحدة يحاول قتلها باسترساله في حوارات داخلية صامتة، انقلبت إلى مونولوجات طويلة بصوت عال، تنهك قواه وعقله. أصبح خائفا من التحدث إلى نفسه، خائفا من السقوط في هلوسات الجنون. يمل بسرعة من القراءة فأخذ يتتبع بعض البرامج التلفزية، وهو الذي كان يكره شيئا أسمه تلفاز «قاتل الحياة» كما كان يسميه، فأخذ يغزو كل وقته لا يطفئه بعد نومه مخافة أن يجد نفسه وجها لوجه مع الصمت، مع نفسه، مع جلاده، عندما يصحو فجأة. لا يحتمل الإنصات إلى سكونه حين يغزو الصمت المكان كما غزت معدته جسمه، لا يستطيع أن يدبر شيئين في نفس الوقت، فَقَد هذه المَلَكة منذ فقد التحكم في تسيير بطنه.
كان السرير في الأول يتعرض لزحزحات خفيفة تخالها لحظات حميمية لجسدين يدغدغان راحته بتجربة وضعيات جديدة في ممارسة الحب، فإذا بها محاولات مستميتة لزحزحة جسمه واستبدال وضعية النوم أو لمغادرته لقضاء حاجاته.
ازدادت حدة الارتدادات الخفيفة على سلم ريشتر لتصبح رجاة عنيفة تسرع بتشقق هيكل السرير القديم رغم صلابة عوده. الألواح تحت الفراش المقعر تتضرع في صرير يئن تحت وطأة ثقل لا يحتمل، يكسر أضلع الإطار وجميع أماكن الانضمام. في كل حركة متباطئة لذاك الجسم خطر وشيك على الساقين ومفاصل السرير. لكثرة الاحتكاك تصدر عنه جلبة وصخب وضجة كبيرة تحول جزءا منه لغبار كوني يسافر عبر الغرفة. غبار يكون ذا مزاج خجول كحب البدايات، ليتحول إلى زوبعة جارفة بتقدم الخطوات الثقيلة على الأرض، يتكاثف ذلك الغبار ويتكاثر ليتقلص بعد الجلبة ليصبح حبيس خيط شعاع الشمس الرفيع الآتي من مجرة بعيدة عبر النافدة الشبه مفتوحة، يتحدى غزو الظلام، فتهدأ زوبعة الغبار لتتلاشى في ذرات تتنفس شيئا من النور والألوان.
كلما تقدم الجسم المتمايل بخطاه المتعثرة تسبقه ذراعان عمياوان يتحسسان طريقهما المظلم، يتشبثان بالحائط المتآكل بالبرودة الذي تخاله لوحة تجريدية تتناسق فيها ألوان داكنة وتتنافر لتتحدى الإطار، وتتجاوز عناده الدائم لاستيعاب الخطوط والحركات.
تتحسس كإزميل دؤوب في حفر طريقه عبر الحائط، تملأه في البداية بآثار خفيفة ترسم تحركات الرجل الضخم ومساره الأبدي عبر الغرفة، لتتحول مع مرور الوقت إلى فجوات عميقة في الزمن بحركة متكررة، لا تمل لتلك الأصابع الطاعنة الفضولية تتوجس كل منعرج في طريقها وتساهم في إعادة خلق هذا العالم بنخرها لتلك الفجوات المتعرجة حسب تعثرات الرجلين في الطريق الملغومة بالحواجز الوعرة عبر الغرفة، للوصول لحافة الباب.
ما بين حافة الباب وحافة السرير تندلع حروب، تدور مناورات تتبعها مشاورات ويعم سلم، تندثر دول لتنبع أخرى فوق خريطة الغرفة وتحدث أشياء بليدة وأخرى نادرة الحدوث وتخرج أشباح من جحورها لتولي فزعة من مرور الجسد وحاشيته.
أصبحت تعثراته المتتالية تلازمها قفزات قلبه التي تكاد تذهب بحياته، تتسابق أطرافه لتتعلق بأي متكأ فكل الحواجز تؤذي إلى الحافة الأخرى، فما بين الحافتين ألف حياة وموت.



Post A Comment: