البحر الأزرق جميل جدا هذا اليوم … والكلمات غير كافية لوصفه …
هل  لي أن استعير منك موجة ؟! … صرختْ "أمل" بينما تحمل ثوبها الفضفاض، حتى ركبتيها وهي تمرغ قدميها المنتفختين من كثرة السير، في الرمل والماء  البارد،المالح …

لم يجبها البحر أبدا … لا بل أجابها، بصمته الغامر الطويل … أجابها إجابة كافية!... 

النسيم البارد، الذي يحمل طعم الملوحة ورائحتها، يتسلل ببطيء الىغ رئتي … فيعطيني إحساسا غريبا … أظنني لم أتنفس يوما ولم أستعمل رئتايْ … إلا لألوثهما بهواء متسخ بأنفاس الغرباء،   في الباص،   و روائح  إحراق بقايا الأدوية والعجلات المطاطية والمخلفات، على انواعها وقت المغرب من كل يوم، فوق حينا السكني الشعبي … وعطاس شيخ كبير مريض بالسل … بالعطور السيئة والرديئة الباعثة على الغثيان والتقيؤ … تلك التي تباع في الأسواق السوداء، بعشرة آلاف دينار أو أزهد من ذلك، لا ذنب لمستخدميها … فالفقر مدقع و إن لم يكن الفقر سببا، فيكفيهم ضيق الحال وعسره ومتطلبات الحياة الغالية … لقد أخبرتني ذات يوم عجوز ركبتُ إلى جوارها في الحافلة … وشكتْ لي حالها وأحوالها وحكتْ لي حياتها بالتفصيل الممل … واستمعتُ اليها بأنصات

 قالت : "في بلاد الهم هادي، كل شي غلا غير البنادم اللي رخص … ما بقينا نسواو والو يا بنتي"

هو زمن ملوث للأعصاب، ومستفز للكآبة كي تدخل رغما عنا فينا … وتستعمل حياتنا إلى أن صارت الأصل … وكل المشاعر الأخرى شاذٌ لا يقاس عليه …! 
حتى نظري صار ملوثا … لم أعد أرى، سوى أكياس البلاستيك والقذارة تأكل من كل الشوارع، أركانها وتسلبها عطرها العادي وروائح سمائها المفتوحة على البحر، بالعاصمة وضواحيها ..

الحمى تسكنني من دون أن تدفع إيجارها …. تجبرني على التكور في بطانية صغيرة، في فراشي إلى وقت متأخر من النهار … لا شيء الآن أفعله، ولا لاحقا كباقي أيام الاسبوع الطويلة. 
فالسقف مازال أبيضا عندما أنظر اليه، كل الوقت والجدران لم تبرح مكانها … مازال بيتنا خاليا على عروشه لا يزورنا أحد سوى القطط الضالة، التي تبحث عن بعض الدفء، بقايا الطعام والعظام …
مازال جلدي مصفرا، ووجهي شاحبا، كلما سقطت عيني عليه في مرآة أو زجاج يعكسه إلى نظري... 
مازال الباعة المتجولون يأتون في الصباح الباكر، ويقطعون نومي بصراخهم، الذي يشبه الغناء …" لوجافيل صانيبون ازيس …" ثم يتبعها أبواق سياراتهم إن كانو يركبونها أو مترجلين يكررون، سلعهم كترنيمة بلحن معين و مميز.

الأمل الذي ربيته منذ بلغتُ العاشرة : شاخ وهرم … وصار يتذمر مني، ومن أحوالي ويطلب أن لا أكلمه … وأتركه وشأنه ليرتاح في شيخوخته …

يريدصمتا طويلا، بعدما أطلت عليه الحديث و أتعبته، كل مرة أجرجره إلى كل مكان، معي وأعود به خائبة، وأفشل في أن أفصِّل له بدلة  واقعية، يلبسها في الحياة ويتحقق بها حقا وليس في الخيال وحسب …

ها أنا ذي … أسهر كل ليلة … ويحرم النوم على عيني … ليس لأنني لا أريد أن أنام … لكن لأن النوم لا يريدني كلما... استعطفته واستنجدتُ به من أوجاعي الكثيرة...
تركني ومضى مكررا جملة واحدة يتردد صداها :" الله غالب واش نديرلك !!!" 
أترك فراشي وحيدا، إلا من بطانيته وتلك الوسادة الصغيرة البنية … و أطير بجناح الخيال، إلى كل مكان قد أرى أنه يناسبني ولو قليلا …

غدا يوم جديد، آخر قديم بالمعنى الروتيني … سألبس فستاني الأزرق بقماش الجينز … و أعتمر شالا ازرقا، كذلك على رأسي … وأحاول المسير إلى أي مكان المهم، أن لا أظل جامدة في مكاني...

عندما أخرج من ذلك البيت … وأترك ضجيج إخوتي وهم يتقاتلون لأتفه الأسباب، وارتاح من ضوضاء التلفاز الذي يستطيع سماعه كل سكان العمارة معنا … و ابعد عن عيني منظر لون جدران غرفة الصالون المصبوغة، بالأصفر المائل للبني … ذلك اللون لا أحبه، يشعرني بالكآبة وأحس أنني أعيش في كهف تاسيلي، لا ينقصه سوى رسومات العصر البدائي، التي تصور رجالا،  مخيفين يصطادون حيوانات برية بأسهم ونشاشيب وعظام حادة مدببة ….

يواجهني في الخارج تحدي آخر …. هو أن أتفادى نظرات الناس لجسدي النحيف جدا جدا... 
و أن أجيد المشي ولا اتعثر بينهم فأصير  أضحوكة!

أبالغ في السهو … ولا أحدد مكان لأذهب إليه، فأول فكرة تخطر على بالي تكون هي الهدف...

أسير ببطيء … وأحاول التأقلم مع الريح والنسيم واللون الأزرق للسماء … الأزرق تعويذة غريبة في شخصيتي … هو أكثر من لون بالنسبة لي … هو ربما الأنا الواسعة، الضيقة في ذات الآن، التي تضمها روحي … وتتجسد بها …

بينما أمشي، آلون المساحات الواسعة في تفكيري، بالا تفكير أريد أن أسرح فقط في العمارات، زجاج البازارات، التي أمر بها و في الملابس المعروضة للبيع، الأحذية والمجوهرات النحاسية في ساحة الشهداء …
أريد أن لا يتسمم سمعي بالألفاظ النابية، التي تنطق في الشوارع وكلمات المعاكسة المثيرة للاشمئزاز، فسيكون محتما علي أن أشغل مسجل الأغنيات الرقمي، أخذته من أختي هو دائما  في جيبي لأستمع إلى الأغنيات التي أوشك أن أحفظها لكثرة تكرارها، برغم أنني لا أفهمها دوما، إنها باللغة الإيرانية لمغن شاب مات في الثلاثين من عمره بسرطان المعدة … صار صوته مخدرا لي و ألحانه منفذا للهروب والتحليق عاليا إلى روحه التي في السماء …
ستغرب الشمس قريبا … ويتوجب عليّ صعود القطار لأعود إلى البيت … بعد رحلة مشي طويلة بلا هدف محدد … 
#يتبع
#أرشيف... مكرر 2015.




Share To: