أنا قراد أبي، أنا القملة التي تسرح في شعره ، البرغوث الذي يلبد في دكة لباسه ، أنا العنكبوت الملتصق به ولا أتركه ولا بالطبل البلدي ، حتى اختنق مني ورماني في الترعة في فترة الفيضان ، وعاد للبيت دون أن ينظر وراءه ، ظللت أغطس وأقب وأضرب بيدي حتى وصلت للشاطئ ومن يومها تعلمت العوم ، وعدت في أثره . أنا الذي أعرف ما يريد وأحقق مراده بإشارة من عينه، ورغم ذلك لم أسلم من عقابه ، ولا أعرف لماذا ؟ لماذا أسقط في الامتحان رغم جدارتي ، ولكن لا يقع- كما يقول المثل- إلا الشاطر. كثير من أهل البلدة يرون عقله خفيفا وهناك مواقف كثيرة تدعم قولهم . أنا أجد لهم عذرا، صدقوني ، مثلا كانت أمي تخبز في الفرن البلدي، ولأن أمي لم يكن لها أبناء بنات كبار في ذلك الوقت، ولأنه لا يحب أن تختلط أمي بالجيران، فقد كان يساعدها؛ هو يقرص ويرح، وأمي تقذف الرغيف في الفرن وأنا أساعد بحمل العيش الذي يخرج من الفرن وأضعه علي حصيرة نظيفة في غرفة من البيت. وعندما انتهينا ودخلت أمي لشق الرغيف لنصفين، كي تعيده للفرن للتحميص، وجدت عين أبي تبربش ولونها أحمر دموي، ثم خطفني من على الأرض ودفع بي ، داخل فوهة الفرن،لولا ما جبلت عليه من صحة ، وقوة ، فصمدت وأخذت أصرخ إلى أن أتت أمي ورأتنا فرقعت بالصوت الحياني ، وضربته على رأسه بقالب طوب لبن فرماني على الأرض، وعندما سألوه لماذا يا راجل تريد إحراق ابنك ؟ هز رأسه هزات متتالية يمينا ويسارا قال : يا نعوم يا نعوم حد يحرق ابنه ، ورحمة أمي هند وضم قبضته إلا أصبع السبابة  وأخذ يشاور به في وجوههم ، ده جرجس هو اللي عمل كده ، وعندما استفسر الجيران عن جرجس ؟ فقال : العفريت ، الواد ده، ثم زام زومات متقطعة ، العفريت بتاعه، وسيدنا محمد قال ثم صمت وأخذ يهز رأسه علامة التأثر ، أبوه يا جدع ، في الحديث الشريف ثم صمت ، وأخذ يهز رأسه . لم يعرف أحد شيئا ، ولا أنا عرفت لماذا يريد أن يتخلص مني ، فأنا شخص هادئ ، مطيع ، لا ألعب مع الأولاد في الشارع ، ولا أجلب له مشاكل أو أتعارك معهم ، وأظل ملتصقا به ، منذ أن كنت صغيرا ، أذهب معه للشغل ، والعصر بعد أن نقيل نذهب للغيط . في يوم طلب مني أن أملأ القلة من طلمبة قريبة من أرضنا ، ذهبت كالعادة وعندما عدت أول ما شرب بصق الماء وقال لي : أنت مليت القلة من الترعة ؟ أنا لا يمكن أن أكذب عليه ، ثم ما الذي سأكسبه من ملء القلة من الترعة والطلمبة قبل الترعة وسأشرب منها ؟ أخذ يسبني وضربني على رأسي بالمركوب ، ولم يلتفت لكل الإيمانات التي حلفت بها . نذهب الحضرة معا بالليل ، ونقيم الذكر ونسمع شيخ الطريقة وهو يعظ ، ودموع أبي تسيل عندما يسمع سيرة الرسول ، أو التابعين . ثم عندما تحضر الفتة واللحمة يأكل كمسعور ، كنت أحس أنه يريد من الله أن يصنع له معدة مجاورة ، ورغم ذلك كان نحيفا صلبا بسبب أنه لا يتوقف عن العمل منذ الصباح حتى المساء ، وعندما ينام يصبح جثة بلا حراك، لذلك كانت أمي تستغل نومة وتبيع للجيران كيلة ذرة أو علبة قمح ، أو البيض الذي تسرقه من ورائه وتضعه في مكان لا يعرف أحد عنه شيئا ، وقد كنت أتلصص عليها ، كي أعرف مكان الفلوس لكي أشي بها عند أبي ولكني لم أعرف أبدا بسبب حرصها ، فقد كانت شيطانة ، ولها أشياء مريبة ، ورغم ذلك لم أضبطها ، لذلك كنت مغتاظا جدا. وفي يوم قلت لأبي أمي مخبيه فلوس ، قال : فلوس إيه يؤله ؟ قلت فلوس بتخنصرها من ورآك، انزعج أبي من الكلمة فقام واقفا ، فين الفلوس دي يؤله ، قلت معرفش لكن إن متأكدا إنها مخبياها في مكان في البيت ، ضحك ساخرا وضربني على قفاي ، يا نعوم يا نعوم ، يجلها الفلوس منين ، وأحنا لاقيين نأكل ، وأهلها الفار يخرج يسب الدين من قلة الأكل في البيت .
سافل عندما تصيبه نوبة جنون. يظل يضرب فينا إلى أن يسكت فجأة وكأن شيئا لم يحدث ، ويا ويله يا سواد ليلة لو أحد دخل عليه من الجيران ليمنعه من ضربنا ، فيتركنا ويمسك في الجار ويظل يرفع فيه ويضربه في الأرض بشكل هستيري . وفي يوم حدثت بين أخي وجار لنا خناقة واجتمعت العائلة كلها للرد على هذا الاعتداء السافرعلينا، ولكن تدخل شيخ البلد كبح زمام الغضب والرغبة في الانتقام مع أننا مولعون بالمعارك ، ولكن سبحان الله وافق أبي علي الصلح وحضر في جلسة الصلح مع أن عمي كان له رأي واضح أن لا يحضر ولكنه رفض وصمم على الحضور ، وذهبنا واجتمع الطرفان، وعندما حانت لأبي فرصة للكلام وصمت الجميع فزعق ، ده تروبس يا شيخ البلد والحاضرين كلهم ضحك وضاع حقنا المؤكد في هذا اليوم.
يحب آل البيت ، يذهب للموالد: السيدة زينب ، والحسين ، ويقيم الذكر ويذهب للسيد البدوي ، لا يترك أبدا مولداً في قرية أو عزبة إلا وذهب، ويعود من المولد الفجر ، يحمل الكوريك السماوي ، أو الفأس ويخرج للعمل وعندما يعود ينام في وسط البيت. أحيانا يفتح باب وسط البيت فتخرج الفراخ والأوز الذي تربيه أمي وتندفع تتخطاه، وأحيانا تبزق فوقه ولا يشعر بها، وعندما يقوم لا يفعل شيء ولا حتى يغير ملابسه . لديه رغبة حارقة في الحديث عن مآثرهم ، يريد أن يتكلم فعلا ولكنه عندما يبدأ في الكلام تتداخل الخطوط ، تحتشد وتندفع داخل رأسه فلا يعرف بالضبط أي خيط يمسك ، أي خيط يبدأ به الكلام ، وأي خيط ينتهي به ، هو يعرف ويحتشد داخل رأسه كرؤوس أفاع ، أنا أثق في ذلك ، مثلا أبي حين يصلي بمجرد قراءة الفاتحة لا يعرف هل هو في الركعة الأولى ، أو الثانية لذلك يظل يصلي حتى يصادف أن يلتقط التحيات ، عندها يشرق وجهه ويبتسم ويسبح في روحانية عالية ، إشراق نوراني لولي ، ولى لا يعرف طريقة ، مريد بلا شيخ أو دليل . في يوم تركني في الجبل حيث أرضنا . كان لدي خمس سنوات ولذلك عندما رأيت شجرة الجازورين ، أخذت أدور حولها وأنظر إلى الأعشاش التي تحوي اليمام ، لم أستطع أن أمنع نفسي من الصعود للشجرة . كانت الشجرة عالية ولكنني كنت ولدا عفريتا وخفيفا ، فصعدت صعدت حتى وصلت لأعشاش لأعلى وكبست على اليمام واصطدت خمسة أزواج ووضعتهم في حجري، وعندما نزلت وجدته يمسكني من ياقة الجلابية، والله تبولت على نفسي من الرعب وأنا أرى عين أبي الشيطانية تضرب شرار ، وقلت : استر يا رب وسترها ربنا فعلا فقد قلع عينا واحدة . وعندما يتهمه أحد بالوحشية ، يهز رأسه ، ويردد والله كلام فارغ ، ولا نعلم ما هو الكلام الفارغ . عندما قلعت عيني لم أيأس فالعين الأخرى ليزر ، تري ضعف أربع عيون ، لذلك الناس تخشاني ولا أعرف لماذا ؟ ماذا أفعل إذا كانت لي عين واحدة ، عين واحدة فقط يا رب، ولكي أرى جيدا أجعلها تدور بزاوية مائة وثمانين درجة لكي أحيط بالمكان ؟ ماذا يفعل من هم مثلي بعين واحدة ؟ الناس يخشونني ، وهذا يسعدني ويبعد عني شرورهم ، ولكن أيضا أنا لي معهم مصالح ، ولا أحد يريد أن يقترب مني أو يسلك لي مصالحي . في يوم حاولت المساعدة في توليد جاموسة لأبي صالح فأزاحني وقال : يا نحلة لا تقرصيني ولا عايز منك عسل . تعلمت الدخان، ومن لا يتعلم الدخان وهو يرى أبيه وهو يلف السيجارة بمعلمة ويشد أنفاسا من السيجارة وكأنها آخر زاده ؟ هذا الولع الذي يعرفه أبي مع شراهة مرعبة في التهام الطعام ، يزدرد كمية طعام مهولة حتى أصبح مضرب المثل ، ولا أنسى يوم أن قال له أبا صالح : كل لك برتقالتين من الجنينة ، ودخلت معه وعندما وقف على شجرة وامتدت يدي لأقتطف برتقالة ضربني كف على قفاي فوقعت على وجهي في الأرض ، الشجرة قدامك آهة ملقيتش إلا اللي أنا واقف عليها ، استغربت وتركت الشجرة له ، وأخذت آكل حتى شبعت وانتظرت أبي الذي لا ينتهي أبدا، وكل فترة يرفع الجلابية ويتبول ثم يستمر في الأكل حتى انتهى منها وباقي عدة برتقالات فقطفهم وقال : خدهم لعبتواب أخوك . كيف أدبر الدخان وليس معي مال طول الوقت غير علبة دخان أبي ؟ أتحين فرصة تركة علبة الدخان واقبض قبوص من شعر الدخان وألفة بورقة بفره وأضعها في جيبي وعندما تحين الفرصة أشرب السيجارة. وفي يوم كنا في حقل الذرة, وكنت احترق من أجل سيجارة ولم يتركني أو يسهُ عن الدخان ، وعندما أذن لصلاة الظهر ، ذهب وتركني وحدي في الخص مع حبيبتي علبة الدخان. وضعت رجلا على رجل مثلما يفعل أبي، وأخرجت علبة الدخان بعد أن وضعتها في جيب السيالة، ثم فتحت العلبة بهدوء ووضعت الشعر على ورق البقرة وبرمت الورقة وأشعلت السيجارة ، وأنا أردد يا ولد  بمزاج. وعندما انتهيت وضعت العلبة في جيبي وسرحت قليلا فوجدت أبي فوق رأسي. ارتعبت ونسيت أسمي وقلت راحت روحك بلاش يا عبد الصمد، وتذكرت العلبة وحاولت أن اسحبها من جيبي، ولكن ما استطعت فعينه مركزة على ، خرجت من الخص وأنا أفكر في الخروج من هذه المصيبة ، وعندما قال : أنت رايح فين يا ولد ؟ رايح أعمل زي الناس. ودخلت حقل الذرة وخلعت اللباس وتبولت وتبرزت وعندما انتهيت انسحبت انظر ماذا فعل، فوجدته ينبش في الخص ويدور كمكوك. عملت عبيط وقلت : هو فيه أية يابا قال : هو هو هو دي بقي شغل معيله وقلة أدب. قلت : وإيه اللي حصل بسقال: علبة الدخان مش لا قيها وأيمان المعجزات مأخذها إلا الواد فرج ابن عبدالمعبود، أصله واد بايظ ومش متربي، هو عبد المعبود ربي عجل وفلح، يا نعوم يا نعوم.. ثم أخذ يضرب كف بكف : تعالي ياله ..
وضع يده وراء ظهره وهو غاضب غضبا شريرا وسافلا، وداخله مرجل حقد وكراهية ، ورأسه فارغة وعينة لا يرى بها بسبب ضياع علبة الدخان. عندما وصلنا أرض فرج وجدناه يمسك المنقرة ويقطع بها أعواد الذرة ويرمي للبهائم ، وعندما اقتربنا وجدت أبي يجري، وكمصارع محترف يرمي نفسه عليه ويرفع رجليه ويضعها خلف رأسه وفرج مذعور لا يعرف لماذا.  تمكن منه وأخذ يضرب فيه بالبونيات والوأد يصرخ ، والله ما عملت حاجة قلت : أقتله هو اللي سرق علبة الدخان. عندما سمع كلامي زاد جنونه وعينه تكاد تنفجر من الغل وهو بارك فوقه يكاد يجهز عليه خلص عليه ، مين اللي هياخد علبة الدخان غيرة ؟ الولد يبكي ويقسم أنه ما رأي علبة الدخان، وعندما لم يعترف تذكر أبي شيئا فنظر لي وقال لم ياد حطب وخشب عشان أنا هولع فيه. جريت وأخذت ألملم الحطب بهمة وجد ، حتى كومت كوما كبير وحملنا الولد منهارا ويكاد يموت رعبا وهلعا وساعتها وكأنه تذكر شيئا من حلاوة الروح وقال : شمني يا عم ، شمني لو لقيت ريحتى دخان ولع فيه ؟ عندما سمعت الكلمة ركبي خبطت في بعضها ، وقلت جالك الموت يا تارك الصلاة ، ويبدوا أن الفكرة راقت له فاقترب من فمه فلم يجد له رائحة ، تركه وخبط يدا بالأخرى وقال : يا نعوم يا نعوم ورحمة أمي هند، وشاور بيده عليه الولد دهه بريء زي سيدنا ثم صمت وقال : الصحابي اللي انسجن في سجن فرعون . . أنت مش عارفة . ثم سرح وترك فرج وسار وأنا فككته والواد فريرة يجري ويقع يجري ويقع، وفي المغرب جاء الحاج عبد المعبود وهو منتفخ بالغضب والقرف ودخل البيت وهات يا شتيمة وأبويا قاعد يهز رأسه ويقول والله كنت هحرقه وكان مات مظلوم ، لكن ربك كبير في لحظة فتح لي طاقة نور وعرفت أنه بريء . إن شاء الله ربنا يجزيه خير . الغريب أنه عندما عرف إني بشرب سجائر كنت ظبط حالي على تكتيفه وعلقه ساخنة ولكن لم يضربني بل أعطاني ثمن ورقة دخان وباكو بفرة، وعندما غضبت أمي من سلوكه قال : يسرق؟ خلية يشرب. ومن يومها وأنا أضع علبتي بجوار علبة أبي ، واذهب معه للشغل كأنفار باليومية ، ونصلي معا، غير أني أصلي صلاة الفجر في البيت في الأيام الشتوية ، ويلح على كي أكسب ثواب أكبر ولكني أقول له ، أنا عايز ثواب علي قد الصلاة في البيت يا حاج . رجله تشققت وكان يرفض أن يستخدم صابونا أو فازلين لتقضي على التقشف ويعتبر ذلك جهاد في سبيل الله ، وعندما كبر طالبناه أن يتوقف عن العمل ونحن أولاده الثمانية نقوم بذلك. وقد أحضر له أخي معوض عباءة من السعودية حيث كان يعمل هناك، وكان يضعها على كتفه ويخرج في سبيل الله ثلاثة أيام، وانتهى بأربعين يوما،وربي لحيته. وكان يلقي البيان لا يفهم منه أحد شيئا، ولكنه كان نورانيا كما قال الرفاق .



Share To: