هل انتبهت الى الكلب الاسود الذي يقف بباب بيتك؟ في الليل , يجتمع لديه قبيلة كاملة من الكلاب , ولم تكن تنبح , كانت ترفع عيونها الى السطح .. تنظر الى السطح فقط.
كان عليك أن تعرف, أنك لست وحدك في هذا العالم , وتكّف عن السخافات التي تقوم بها, الجو لم يكن مناسبا بتاتاً , ودرجة الحرارة تقارب الأربعين في ساعات المساء, وأنت بالذات لا تحتمل كل هذه الحرارة والرطوبة العالية. ان جسمك يتعرّق بسرعة.
واعتقد انك لم تنتبه انه ليس لديك جيران هنا او أصدقاء, هذه البيوت التي حولك كلها فارغة, ليس فيها سكّان. انظر الى كل هذي الجبال من حولك, أجزم أنه لا يسكنها الا الجنّ والعفاريت, وهذي البيوت, تركها أهلها منذ سنين, لأنها منطقة مقفرة ونائية , لذا تتجول بينها الكلاب السائبة في الليل.
وحين كنت اتسلل من الحياة , وأتجشّم عناء الحضور من مسافة بعيدة , لأطمئن إن كنت ما تزال حيّاً , كانت تواجهني قبيلة الكلاب تلك .. كان يرعبني منظرها المحزن , وهزالها الشديد , وعيونها التائهة. وكان يؤسفني ان ادرك , انه على الأغلب, هذه المنطقة تسكنها الكلاب السائبة, وهو ما يتوجب عليّ أن أحذر منه بكل الاحوال. لقد كانت ترفع آذانها وتنصتُ الى قدومي من بعيد, كانت ترمقني بعيون تائهة , وتقترب كثيراً من العربة , لدرجة تضطرّني أن اقود بسرعة وئيدة كي لا أدهس هذي الحيوانات المثيرة للشفقة والمخيفة في آن معاً , كانت تحيط بالعربة من كل جانب , ولم تكن تنبح , كانت تسير الى جانب العربة بكل صمت وخشوع , وكنت أقود بتباطىء أكثر كلما أقتربت من مكانك , كان بعضها يسير أمام العربة, وتتلفت نحوي بين حين وأخر, والبعض كان يحيط بي عن الشمال وعن اليمين , وكنت أرقب بعضها بالمرآة يسير خلف العربة بكل جلال وأحترام , وكان يراودني شعور, بأنها تدرك الى أين أنا ذاهب , كانت تدرك اني قادم إليك , من بين كل تلك البيوت المتناثرة في ذلك الحيّ البعيد , كانت تعرف أني أتجه الى البيت الذي تسكنه, ولم يكن ذلك مستغرباً , فأنا كنت أجزم لك مِراراً , بأن كافة البيوت التي تحيط بك فارغة , وليس من سكّان فيها , ولكنك لم تكن لتصدّقني , كنت تقول: أنهم فقط جيران طيّبون , ومتفهمون, لدرجة أنهم لا يرغبون بإزعاجي. وعندما سألتك إن كنت رأيت أحداً منهم؟ كنت تقول: "نعم". وتشير لي بأصبعك من فوق السطح الى احد البيوت: "رأيت احد الجيران على تلك النافذة, وحين لمحته , توارى عن ناظري حتى لا يزعجني , انهم لا يرغبون ان اشعر بالحرج في خصوصيتي".
كانت الكلاب تسير حول العربة , بكل جلال واحترام , وعندما توقفت امام مدخل البيت, تجمهرت كلها بخطى مفاجئة وسريعة , وانتظمت في طابورين غير مستقيمين يمتدان على كلا الجانبين بين العربة والمدخل. وقد هالني الأمر , إذ بدا لي انه يتعيّن علّي أن اهبط من العربة وأمشي بين هذي الكلاب البائسة حتى المدخل , وكنت نوعاً ما مرعوباً , وبذات الوقت كنت أشعر بالإطمئنان , فهيئتها لا توحي بأنها مؤذية , أو تضمر شرّاً. وقد دفعني خاطرٌ الى الإبتسام - رغم ما اشعر به من حيرة وإرتباك - إذ لم يكن ينقص المشهد ليكتمل, سوى ان يكون هناك شريطٌ أحمر على المدخل , ومقصّ يحمله احد الكلاب.
عندما هبطت من العربة , شممتُ رائحة الشواء , كانت الرائحة تملأ الحيّ بأكمله , وتبدو ذكيّة وقوية ونفّاثة. فلا أعجب وذلك , ان تلتمّ كل هذي الكلاب على المدخل , لكنّي في قراري , كنتُ أتشكك ان يكون هذا وحده هو السبب. وكنت في كل مرّةٍ أحضر إليك لأطمئن إن كنت ما تزال حيّاً , اجدك تمارس الشوي على السطح.
كان يتبادر الى ذهني , وأنا أسير مرعوباً بين هذا الكمّ الهائل من الكلاب, التي أقعت على مؤخراتها .. وأنتصبت على قوائمها الأمامية .. رافعةً عيونها نحوي , بأن هذه الحياة , لا بدّ قصيرة جداً, ومليئة بالبؤس والظلم الذي لا قِبل للإنسان على تحمّله , وأنه يتوجب على المرء – بأسوأ الأحوال- أن لا يكون فقيراً بين أغنياء , أو غنياً بين فقراء, إذ من شأن ذلك ان يشعرك إن الحياة ليست عادلة بالإطلاق, وهو شعور مؤلم, ينخز الضمير قليلاً , لكنّه سرعان ما يتلاشى.
أخبرتك إن الجو غير مناسب بتاتاً , ودرجة الحرارة تقارب الأربعين في الليل, وانت بالذات لا تحتمل كل هذي الحرارة والرطوبة العالية, وجسمك يتعرّق بسرعة , ولم يكن من داعِ لهذا الشواء على السطح؟
- تقول لي: "أنا أحبّ الشواء على السطح , أنها هوايتي المفضلة".
- " انا لم أسمع يوماً في حياتي عن هواية اسمها الشواء على السطح".
- "هذا لأنك غشيم , ولا تعرف إن الشوي ممارسة فلسفية , إنها كالإقبال على الحياة والموت في آن معاً".
حسناً, قلت لك مرّات عديدة , أن تكفّ عن قول السخافات , وتهبط عن السطح. ومع ذلك, كانت اللباقة تقتضي أن اجاملك , وأن اقول "انك تعدّ شواءً لذيذاً جداً". وأضطر احياناً للمبالغة فأقول: "أنني لم اتذوق في حياتي شواءً لذيذا كهذا". وكنت انتظر لأرى نظرة الرضى تعلو وجهك , وكان يخيّل لي انك تحتاجها. وفي حقيقة الأمر , انك لم تكن تجيد هوايتك تلك , لقد كنت اراقبك , واضطر كثيراً للتدخل حتى لا يحترق الشواء مرارا وتكراراً, وكنت أنت تجلس ساهماً , تنظر الى الجمر وتغيب , أو تمارس الثرثرة بكلامٍ نصفه غير مفهوم , وعندما كان يصيني الكسل واليأس وأستسلم , كنت أهيىء نفسي لتقبل النتيجة, فالشواء المحروق يمكن تحمله ايضاً , ويمكن ان يكون صالحاً للأكل ما دام الجوع حاضراً.
وكنت اتذكر تلك البقرة .. البقرة التي قطعت من ضلوعها قطع الشواء تلك. وأجزم انها كانت عزيزة على صاحبها, ويبذل جهده وهو يسهر على راحتها ليلاّ ونهارا. وكانت تفتر عن شفتيه ابتسامة, كلما راءها تأكل بسكينة وتتمتع بصحة جيدة. الحاجة الى المال –لابدّ- هي التي أحوجته ليسلمها الى يدّ جزار. جزار– لا بدّ – لديه اطفالا يريد ان يشتري لهم أقلاما ودفاتر.
كنّا نأكل الشواء, وكنت أواجه صعوبة بإبعاد الفكرة, كم نحن آكلوا لحوم متوحشين .. ما ذنب تلك البقرة التي ولدت على هذه الأرض أن يتم ذبحها لننعم بهذا الشواء المحروق؟ وكم هو مؤلم ان تدرك انها لم تكن تعي مصيرها المحتوم, ولو قيّض لها ذلك, لربما ولّت هاربة لتنجو بحياتها.
ولم أكن انتظر منك ان تكلّمني عن دورة الحياة وكل تلك السخافات. إذ يمكنك ان توافقني, بأنه كان يمكن ان يكون هناك غذاء للبشرية دون اللجوء الى افعال الذبح والقتل لكائنات تعيش معنا على هذه الارض. كما قد أوافقك وأدرك ما تعني حين تقول إن الشوي إقبال على الحياة والموت في آن معاً.
نعم, فكلما نظرت الى قطع الشواء تلك وهي تتقلب على الجمر, كنت اتذكر البقرة التي دفعت حياتها من أجل ان نقبل على الحياة, لقد أقبلت على الموت لكي نقبل نحن على الحياة. الا توافقني أن سلسلة الغذاء كان يمكن أن تكون بسيطة وسلسة دون اللجوء لأفعال دموية وذبح وقتل؟ لقد وصل الأمر الى حد ان يقتل المرء اخيه من اجل سلسلة الغذاء تلك, وربما ليجلس أحدهم مثلك على السطح.
أننا بشكل او بأخر شركاء في الجريمة, وأنت لا تريد ان تدرك ذلك, كما لا تريد أن تكف عن إعتكافك هذا, انك تنظر الى العالم من فوق سطح, تمارس عليه هوايتك المفضلة, انك لا تريد أن تدرك انك بشكل او بأخر سبب في تجمع الكلاب البائسة تلك في الأسفل.
أنا لا أبرىء نفسي, فأنا أدرك إن كلانا في منفى عن الواقع, أخترنا ان ننظر للحياة من نافذة مغلقة أو سطح, ونمارس نوعاً من التنظير, ونعتقد جازمين إننا نرى الأمور أكثر وضوحاً ممن يعايشونها. هل تعتقد إن ارتفاع السطح كافٍ لمثل هذه السخافة؟ إنه يتراءى لي أن أحد الكلاب تلك قد يتعاظم حجمه فجأة ويتطاول حتى يغطي مشهد الجبال التي أمامنا, وقد يتجاسر ليضع أحدى قدميه على السطح قريبا من هذه الطاولة البلاستيكية, وعندها ماذا تحسبه فاعل؟ سينظر إلينا كحشرات صغيرة.
هل انتبهت الى الكلب الاسود الذي يقف بباب بيتك؟ في الليل, يجتمع لديه قبيلة كاملة من الكلاب, ولم تكن تنبح .. كانت ترفع عيونها الى السطح .. تنظر الى السطح فقط.
--------------------------------




Post A Comment: