إنّ الكثير من الناس يتصورون بأنّ الأمة العربية تراجعت على مستويات عدة، بضمنها التعليم، والصحة والصناعة والزراعة وغيرها. لكن عند تصفح صفحات التاريخ القريب والتدقيق في تفاصيل الواقع لا نجد هذا التراجع واضحاً على إنّه تراجع بالمعنى اللغوي حيث أنّ التراجُع مصدر الفعل الخماسي تراجَعَ وهو يأتي بمعنى العودة الى الوراء كأن نقول تراجع الجيش أو يأتي بمعنى التخلي كأن نقول تراجع المدير عن القرار، أي بمعنى تخلّى عن قراره. فمعنى التراجع هنا غير صحيح إذا كان يقصد به العودة الى الوراء وذلك لسبب مهم لأنّ الحاضر بكل تخلفه يكون دائما أكثر تطوراً من الماضي بكل تقدمه، هذا على مستوى البشرية بشكل عام، إلّا إنّه قد يستثنى منهُ أجزاء من من البشرية. وهذه الأجزاء او الأمم برأيي هي لم تتراجع بالمعنى الحرفي وإنّما تباطأت في مسيرها في الوقت الذي تسير به إجزاء اخرى من البشرية بتسارع نحو الأمام. وأنّ التباطؤ في الوقت الذي يتقدم فيه العالم إلى الأمام تراءى للأمة المتباطئة بأنها تتراجع وكذلك يُراءى للأمم التي تقدمت بأنّ الأمة المتباطئة تتراجع أيضا. فالتصور الناتج عن تراجع بعض الأمم بنظري هو نتيجة غياب أُطر الإسناد والسبب في ذلك لأنّ البشرية كلها في حالة من التقدم والتطور وبالتالي عند توقف أمة او تباطؤ الحركة التطورية لها، ستبدو للأمم التي تتقدم ولنفسها بأنها تتراجع.
أنّ القناعة المترتبة على هذا التصور الخاطئ له مردودات سلبية هائلة على المجتمع بشكل عام والفرد بشكل خاص. وقد ينتج عن ذلك تشكل تصورات ومفاهيم مغلوطة لدى المجتمع يساهم في نشرها وترسيخها العقل الجمعي.
لو عدنا في التاريخ الى فترة زهو وانتصارات الأمة العربية في زمن الدولة العباسية ودققنا التطور بمفهومه التطور الحضاري والإجتماعي وليس مدمجاً بالإنتصارات العسكرية والسياسية سنجد من خلال مقارنة وسائل التطور والتحضر ومفاهيمه ما بين ذلك الزمن والحاضر سنجد أنّ الحاضر أفضل بكثير من الماضي على مختلف المستويات الإجتماعية منها والثقافية والصناعية والزراعية.
عقدة الماضي هي التي تقف حاجزاً عن رؤية الفرق وهذه العقدة نتجت من المقارنة الخاطئة التي تقارن بين زمنين مختلفين وموقعين مختلفين، فكيف لعاقل أن يقتنع مثلاً بأن بغداد او القاهرة او البصرة في زمن الدولة العباسية
حيث كان المواطنون يركبون البغال ويأكلون الشعير وحشف التمر ويتداوون بالكي والأعشاب ويموتون ملايين منهم بسبب الطاعون والحمى وغيرها
أكثر تطوراً وتحضراً من الحاضر حيث المواطن يتداوى بأفضل الطرق العلمية ويلقح اطفاله عن الأوبئة ويركب السيارة الحديثة ويسافر للحج بطائرة مكيفة بدل الناقة ويسكن في بيت مؤثث لم يكن بأحلام الخليفة هارون الرشيد في ذلك الزمن!، أليست هذه قسمة ضيزى؟!.
أذاً كيف تكونت هذه الفكرة وأخذ العقل الجمعي يصيح في آذان الأفراد بأن الماضي أفضل من الحاضر؟.
برأيي هنالك عدة دوافع، الدافع الأول هو دافع الإستحواذ والنزعة الغرائزية للسيطرة على الأمم التي تتجلى في القومية،والدافع الثاني هو الدافع الديني والنزعة التبشيرية للدين،والثالث هو دافع الأصالة وحماية الموروث الديني والإجتماعي.
يثبت لنا التاريخ البشري بأنّ البشرية في حالة سباق مع بعضها وهي منذ نشوئها بدت السباق على شكل أفراد ثم عوائل ثم قبائل ثم حضارات بعد قيام الثورة الزراعية قبل حوالي(٩٠٠٠) سنة قبل الميلاد على وجه التقريب. فمنذ نياتردال والصيادون الجامعون ومن ثم العقلاء كما يسميهم يوفال هراري، كانت البشرية تتسابق من أجل العيش الأفضل وبالنتيجة البقاء، وهذا التسابق الذي مازال ممتداً منذ الاف السنين شبيه بسباق المرثون، من يتسارع سيكون الأول ومن يتباطئ سيكون الأخير. فحينما تكون أمة في المقدمة لا يعني أنها ستبقى دائما بالمقدمة وعندما تتذيل السباق أمة في زمن ما لا يعني أنها ستبقى كذلك للأبد. يذكر لنا التاريخ كيف أن الحضارة الرومانية تسيدت المرثون ثم انهارت وكيف أن الحضارة الفارسية تسيدت المرثون ثم إنهارت وكيف أن الحضارة العربية تسيدت المرثون ثم انهارت!...
لكن الحقيقة التي لا محيص فيها أن كل البشر منخرطون في السباق وكل منهم في تقدم دائما، الذي في رأس السباق يتقدم ومن في الذيل يتقدم أيضا،والفرق بينهما هو مقياس التحضر الظاهر بإعتبار المتأخر سيبدو وكأنه نقطة الإسناد الثابتة لقياس سرعة المتحرك. ولذلك تبدو الصورة للأمة العربية بأنها تراجعت.
في الواقع أن العرب في الحاضر هم أكثر تقدماً وتحضراً من أسلافهم وكذلك الفرس والرومان وغيرهم، لكن الفرق أن الأمم الأخرى التي كانت تتأخر عنهم تقدمت عليهم كثيرا بفعل تسارع حركة التطور والتحضر لديها،حتى تولدت قناعة الإنكسار والإنهزام لدى من تخلف.
الأمم التي تتخلف دائما تمر بحالة من جلد الذات وتأنيب الضمير ويظهر فيها أفراد كثيرون يلومون بعضهم بعضاً، في الوقت ذاته يظهر أفراد أصوليون يتشبثون بالتاريخ كي يغطوا عار الهزيمة لكن هؤلاء بالأخير سينهزمون ذاتياً. أنّ جلد الذات بقدر ما هو مؤذٍ ومؤلم إلّا إنّه أفضل لصلاح الامة من التغني بإنتصارات الماضي.
ويبدو السبب وراء تقدم الأمم التي كانت متأخرة في فترة ما هو مساهمة ضمير الأمة في شحذ اللياقة اللازمة للتسارع واللحاق بمقدمة السباق.
فهل يا ترى ستعود الأمة العربية للمقدمة من جديد؟
بحسب الواقع التاريخي فأنّ هذا ليس بالبعيد لأنّه موقع الصدارة لم يدم لأمة أبداً. لكن السؤال الذي يحتاج أن نعرف جوابه هل أنّ مفهوم الأمم في المستقبل يبقى ذاته، حدوده اللغة او الدين أو الأرض؟.



Post A Comment: