رحت أسير في شارع كولون، مسنداً يدي إلى الحائط كي لا أسقط على ظهري. وعندما وصلت إلى دار البلدية، جلست على مقعد خشبي مهلهل، وطلبت من صبي ماسح أحذية ضخم الجثة أن يلمع لي حذائي. كان وجهه متورماً من كثرة الشراب. 
 ثم انطلقت نازلاً شارع ميركادو، ثم، ومن دون تفكير، وبدافع من السأم المحض، توقّفت أمام واجهة مكتبة. كان صاحب المكتبة رجلاً متجهّم الوجه، منهمكاً في تزيين الرفوف، يرتب في شكل مروحة عدّة نسخ من كتاب صدر مؤخراً لكاتبة تدعى مايبيل بلاتا. كانت تزين غلاف الكتاب صورة نورس يطير فوق أمواج متلاطمة. دخلت المكتبة ورحت أتصفّح بعض المجلات. كانت مجموعة المجلات تتراوح بين أعداد من مجلة "ناشيونال جيوغرافيك" ومجلة "هسلر" التي تعرض صور فتيات حسناوات غبيات شبقات في وضعيات مختلفة، وحدهنَّ، أو وهنّ واقفات إلى جانب رجال يكسو الوشم أجسادهم. وفي الصفحة الأخيرة من إحدى المجلات، سجلت العارضات الهاويات عناوينهن ليرسل لهنَّ المعجبون رسائل عاطفية. وعلى الرغم من أن الصور لم تكن جيدة من الناحية الجمالية، فقد كانت مثيرة.
 وجدت نفسي في وسط الرفوف الضخمة التي تضم مئات الكتب والتي تتراوح بين قصص الأطفال ومجلدات طبية سميكة تتوسطها سلسلة الروايات والقصص القصيرة. لم أكن قط من أنصار الأدب الذي يتحدّث عن الأدب، بل كنت أحبّ دائماً روايات الجريمة التي فيها مخبرون يرتدون معاطف وقلنسوات، لها بدايات ونهايات واضحة. فيها رجال مثل رايموند شاندلر وتشيستر هيميس يستطيعون أن يغيّروا حياتي لبضع ساعات، وتحريري لكي أرى العالم من خلال عيني فيليب مارلو أو غرايف ديغر جونز. عندها فقط عثرت على أحد كتب هيميس بعنوان "الحرارة شديدة".
 شدّتني السطور الأولى. أحسست بالخدر التام عندما حملتني مغامرات كوفين إد جونسن وغرايف ديغر جونز ونقلتني إلى أزقة هارلم. ومن الجلي أن أي شخص يعرف حيّ هارلم معرفة جيدة يستطيع أن يحدثك عن صعوبة الخروج من ذلك الحيّ. ولم ألاحظ أن العاملين في المكتبة قد أزالوا الكتب من فوق الرفوف، ونقلوا الأثاث من جانب إلى آخر، وزيّنوا الطاولات بمفارش، انتصبت فوقها أكوام ضخمة من الكتب منذ دقائق قليلة، ووضعوا عليها كذلك صحوناً وكؤوساً ومزهريات وصوراً لمايبيل بلاتا، وهي امرأة شاحبة، ضامرة، عظام خديها ناتئة، لها وجه غائر وحزين. وكان نادل يرتدي سترة بيضاء نظيفة وقفازين سوداوين، يرتّب قناني شمبانيا تشيلية بطريقة رسمية، بينما كان رجل أصلع بدين له شارب يشبه شارب نيتشة، يصدر أوامره بتبرم. خمنّت أنه صاحب المكتبة ومنظّم حملة إطلاق كتاب مايبيل بلاتا. لا بد أنني الشخص الذي يفسد هذه الحفلة.
 قلت في نفسي من الحصافة أن أخرج، لكن ليس قبل أن آخذ كتاب هيميس، فأخفيته تحت قميصي ووراء حزامي. لم أسرق كتاباً منذ عشرين سنة، ولم أرغب في أن أتخلى عن هذه العادة. حاولت أن أتسلل إلى خارج المكتبة، لكن المنفذ إلى الشارع كان مسدوداً بحبل. اقترب مني الرجل الأصلع، وهو يحمل بيده سيجاراً كوبياً، وأمسكني من ذراعي بثقة رجل مهم.
 وقال: "من هنا، لقد جئت في الوقت المناسب، فأنا أحبّ الأشخاص الذي يحترمون مواعيدهم. أرجو ألاّ يتأخر باقي الأشخاص المهمين في لاباز. من أين أعرفك؟"




Share To: