حين تخرج إلى الليل المنير ..الآن/هنا،  سترى الناس اللامبالين يتمشون في شوارع الإقامة و يبحثون عن نسائم تكنس ما علق برئاتهم من أنفاس أثقلها الطقس الخريفي اللزج الرطب الخانق...
و سترى واجهات المغازات المصقولة و المقاهي  التي تتكاثر و تبدع في إغراء الحرفاء بارتيادها...و هم بطبعهم راغبون...
حين تخرج إلى صباح الشارع خلف أسوار حديقتك و في يديك حمولة من  أكياس بلاستيكية لقوارير الماء البلاستيكية الفارغة، ستجدين طفلة ثم بعدها طفلتين، أختين  ملازمتين للمكان المخصص لحاويات القمامة...قمامة يوم بأسره...طفلتان صغيرتان و روائح عفنة...
في المرة الاولى و كانت الساعة وقتها لا تتجاوز السابعة صباحا على أقصى تقدير، وجدت هناك الطفلة الكبرى..عمرها لا يتجاوز الثماني سنوات...جرت نحوي و قالت: تعطيني الدبازز يعيٌشك؟ 
- أي خو الدبابس الكل و الخبز زادا
ثم مشيت في حالي سبيلي و ما لبثت أن التفت و أنا في استغراب لا مثيل له من تواجد طفلة هناك في تلك الساعة قرب قمامة قرية رجل الأعمال...
كانت تقفز و تدندن...شعرها أشعث و وجههها مغبر مسوٌد متسخ و هي جميلة و تلهو عابثة، تفتح القوارير (لأنني أعيد القوارير أغطيتها كلما فرغت واحدة منها...), قلت كانت تفتحها الواحدة تلو الاخرى و تشرب لاهثة عطشى ما علق في أسفلها من قطرات ماء... 
بعدها تتكرر مشاهد الصباح نفسها و تنضاف للطفلة أخرى تصغرها بسنتين أو أكثر، الصغرى صغيرة صغيرة صغيرة...و تجري خبط عشواء وسط الطريق الذي تعبره السيارات مسرعة و تقف في المفترق أمام السيارات و تقترب من السواق الذين لا يعيرونها اهتمام...كلهم موظفون في طريقهم لمقرات أعمالهم...
لا أحد يكترث...ليس هناك وقت يسمح بذلك...أنا أيضا  لا أبدو مكترثة لكنني كنت مضطربة...لا أدري شيء في روحي تهاوى كما النجوم الهاويات في سديم آثم...
الطفلتان...أنا ..كيف؟ 
أنا لا أكلم أحدا ابدا ما لم أكن اعرفه، أنا لا أبادر الناس بالحديث أو التعارف خارج الأطر التي أجبر فيها على هذا التواصل الذي يضنيني و يتعبني...متعجرفة يقولون هنا...لا يهم أنا لا أجد ما اقوله..ليس الكلام سهلا...
أنا..أكلم الطفلة الكبرى و أسألها...ذلك السؤال الذي خرج من جوف روحي عفويا، كان السؤال الأهم فخرج وحده يسأل بصوت مرتعش: إنت تقرى؟ 
قالت: أي نقرى أنا و أختي
قلت لها: هل تحصلت على الكتب؟
أجابت: نعم اعطاتنا المكتبة الكتب ببلاش
و اردفت هل انت أتيت من ذلك الحي...
قالت لا, أنا اسكن في (الج...رة) 
...فهمت، هناك حسب ما فهمت تتشكل بؤرة عميقة من كل شيء آسن...الوجه الأبشع و الافظع و الأسد بذاءة من بين كل الأحياء المحيطة بالإقامة المهيئة...
الطفلة...الطفلتان ..زهرتان تتعفنان في القمامة...في الحياة التي استقبلتهما بقمامة تفتح على كل صور الهوان و ألوانه...



Share To: