القصة فائزه بالمرتبة الأولى في القائمة القصيرة  للمسابقة العربية بجمعية مواهب المستقبل آيات عميره تحت إشراف الاستاذ عمر لويكي بالمغرب الحبيب.. 

1 / 3
مقهى الخوف

كعادتي ،  حينما أنتهي من المأمورية التي توافق خط السير ليوم الثلاثاء ، أذهب لذلك المقهى لأشرب قهوتي .
مقهى الزهور محببة إلى قلبي بساطته ، أبوابه التي يطل أحدها على مساحة من الفراغ ، تصل منها إلى السوق التجاري للمنطقة ، الباب الآخر زجاجي مغلف بصور زيتية قديمة من ذات العصر للوحة أخري على الحائط الكبير . رجل تظنه أحد سلاطين المماليك ، تتمايل أمامه إحدى الجواري وأخرى تملأ له القدح بالنبيذ ، خلفهما تظهر ملامح بنايات منزلية ، وسوق صغير في الحي .  
الصور فيها شيء من الطبيعة التي عادت عليها الحياة ، كيف لسوق يبيع الخضروات والفاكهة أن تتراقص فيه الجواري في عُرض الطريق ؟!.  
خطر ببالي أن هذا الغياب للتناسق قد لا يكون ابن الطبيعة وحدها وإنما أراده الرسّام عطفاً على رؤيته لحقيقة الأشياء ، فلسفته التي يمنحنا إياها بريشته ويتمنى أن نفهمها من تفسير المكان والزمان والشخوص والأشياء الدقيقة على اللوحات .
تجيئني القهوة شحيحة السكر وأنا جالس على طاولة بلاستيكية أسفل شجرة تعلوها يافطة صغيرة الحجم ، تحمل اسم المقهى الذي دام لعقود يفتح أبوابه كل صباح ، ينتظر أمثالي من المدمنين لمشروبهم اليومي الذي لا يحلو مذاقه إلا هنا ، في الهواء الطلق ، بين الناس وتحت أصوات الراديو الذي لا يبث سوى إذاعة الأغاني طوال اليوم والقاهرة الكبرى مع النسائم الأولى للنهار ، حيث يستهويني أن أفتش في عيون الناس ، والهرب ، والسكون إلى هواجسي التي لا تنتهي .
في الممشى الفاصل بين المحال ، يسير المارة إلى مرادهم ، كل إلى هدفه وعلى طريقته ، مثلي قبل أن أجلس ، نساء ورجال ، فتية وفتيات ، صغار وكبار . السيارات تمر في الشارع على اليسار جيئة وذهاباً .  
ذكّرتني طفلة تتمسك بكف أمها تقارب السبع سنوات من العمر ، بالتي رأيتها قبل ساعة في المدرسة الابتدائية ، تبكي في ركن الحديقة . أنهيت التحقيق مع العامل المتمارض ولمحتها أثناء خروجي ، لا تزال وحيدة ، ولكنها توقفت عن البكاء ،ربما توقفت يأساً أن لا مواساة تجيئها من أحد .
صياحات صبية المقهى وكلام السائرين وضحكات أصحاب المحال والشباب الصغير وضوضاء أغاني المهرجانات في هواتفهم وتقاطعها مع عذوبة ورهافة المذيعين في الإذاعة وأغانيها ، أبواق السيارات ، مناوشات التلاميذ الهاربين من فوق الأسوار ، يخلق طنيناً ما يمكنني تبينه بدقة ومتابعته ، إذا ما أسندت رأسي إلى الحائط خلفي وأغمضت عيني لثوان سريعة . وسط كل هذا الضجيج الطنّان ، خيال آخر يسير حراً منطلقاً في رأسي مليئاً بالخطوط المتقاطعة ، يلهث .
مقيتة هي الأوقات التي أسقط فيها في شَرَك تشظّي الذاكرة ؛ كالريح التي تتلقفها الشبابيك وأوراق الشجر ، تصدمها البنايات ، تخرج من شارع إلى شارع ، تتشتت في المفارق عند الناصية وتصبح ألف ريح مختلفة ، تتطاير ، تهدأ وتعصف ، تستمر بهذه الحال دون قدرة
2 / 3
على وقفها أو إمساك ملامحها ، معرفة ماهيتها ، كيف انطلقت ، وما الذي حركها من ركودها ؟! .
لست وحدي من يحب مقهى الزهور ؛ فكل المقاهي تصلح لشرب القهوة ، ومنها ما يصنعها بحال أفضل من هنا ، ولكن الحب يجعل الإنسان قادرا على تقديم بعض التنازلات ، قهوتك التي تحبها واعتدتها ، الحيز الشعوري لمكان تستأنسه وتقبله حواسك .  
مرّ أكثر من عامين كاملين منذ أن لعبت الصدفة دورها ، لأكون شاهدا على أكبر حدث رأيته في هذا المقهى ، ربما في حياتي كلها .
أكثر اللذين اعتدت رؤيتهم يجلسون جِلستي ، على الطاولات الحديدية الصغيرة في الداخل أمام الصورة الكبيرة ، في الخارج أسفل الشجرة الأخرى يمين الباب المفضي إلى السوق ، يتقاطعون معي في الاهتمام والشغف ، الصمت والتأمل دون سابق اتفاق ، وإنما بتوارد شعوري - إن للإنسان المقدرة على أن يستشف ما في أعين الآخرين ، كلماتهم التي لم تطلقها الأفواه ، حركاتهم المعبرة - كان الأستاذ ، كما كانوا ينادونه دوما اعتياداً ، ويتجاهلون اسمه الحقيقي .
كل ما عرفته عنه أنه كان موظفاً بالأوقاف ، مثل كل الموظفين العاديين ، لا صيت ذائع له سوى في دائرته المقربة . قد يكن سبب ذلك أنه - كما لحظته – قليل الكلام ، وشاردٌ طيلة الوقت ، يشرب قهوته ويجلس ساعة أو ساعتين وينصرف ، بلا حديث مع الآخرين ، بابتسام سريع مع صبية المقهى ، لا يصيح في القطط التي تتجول تحت أقدام الطاولة وتلمسه ، وقلما شاهدته يجلس مع أحد .  
بعدما أحيل إلى المعاش زاد تردده على المقهى ، وجدته هناك كلما ذهبت ؛ كان نفس الشخص بكل ما فيه من ملامح ، ما تغير هو علامات العمر . بعدما يُحال الموظف إلى المعاش يتغير الكثير ، يصبح فوق أخر عتبات الحياة ، فات الكثير جدا من رياح العمر ، ولم يتبق إلا القليل من النسائم الرطبة .  
فكرت أكثر من مرة أن أقتحم عليه هدوءه ، فسمته الجاذب كان يحركني إلى رغبة الحديث معه ، ولكنني لم أفعل مع الأسف .
في أحد الأيام ، وبينما يدور الشارع والمقهى والمحال والسائرون كل في فلكه ، بعدما انتهى الربع الأول من النهار ، طلبت قهوتي ورحت أتفحص الأخبار بالهاتف وأرى ما يحدث في هذا العالم الغريب ، وكان الأستاذ جالساً في الناحية الأخرى وأنزل له الصبي القهوة كذلك ، انطلق من الفراغ شجار مفاجئ بين صاحب محل الأدوات المنزلية والعامل في محل الخضروات ؛ الغبار الذي تطاير من المقشة والعامل ينظف أمام المحل حط فوق الأواني والملاعق المعدنية و الثلاجات المغلفة المعروضة ؛ تجمع المشتغلون بالمحال وأصحابها وبعض السائرين بالشارع بسرعة البرق ، اختلطت الأحاديث والصيحات ، السباب والوعيد ، إلى أن هدأت الجلبة بعد نصف ساعة تقريباً ، وعاد الصمت تدريجياً مع بعض النقاشات الجانبية .
لا حظ صبي المقهى أن الأستاذ لم يتحرك من مكانه ، لم يكن معنا في محاولة فض الاشتباك الذي خلّفه الغبار ، كوب قهوته وكأس الماء لا يزالان كما وضعهما على الطاولة ممتلئان ، وهو يلقي رأسه إلى الحائط خلفه صامت بلا حراك وكأنه نائم .  
راقبت مرور الصبي ونظراته باستغراب إلى الأستاذ ؛ بعد عشر دقائق اقترب منه وناداه ..
- يا أستاذنا قهوتك تلّجت .
الأستاذ لا يجيب ؛
- يا أستاذنا قهوتك تلّجت .
الأستاذ لا يجيب ؛ حل صمت - ربما صمت داخل كلينا ، أنا والصبي -  ، كرر الصبي نداءه ..
- يا أستاذ إنت نمت ولا إيه ؟!!.. بَقولك القهوة سِقعِت .  
لا إجابة ، لا حركة بدت على وجهه الذي بدا شاحباً مُصفراً ؛ زاد التوجس والخوف ؛
ما إن أمسك الصبي بيد الأستاذ محاولاً لفت انتباهه ، حتى صاح مردداً :
- لا إله إلا الله ، لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله .
عاد الضجيج للسوق ، ارتسم الحزن على الجميع ، البكاء والهمهمات ؛  
لم أتحسس نفسي إلا وأنا أسير في طريق العربات أسفل خط الأشجار بمحاذاة الرصيف في صمت مطبق ، لا أعرف بأي اتجاه تأخذني قدماي



Share To: