الانقطاع عن العراق
في رواية
(الصور على الحائط)
24/ 7/ 2020
تتكون صورة غلاف هذه الرواية من خمسة أجزاء، أربعة منها أصيلة، هي: الجدران والشناشيل والأبواب والدربونه (الزقاق)، لتكون القطيعة واضحة بين العنوان (الصور على الحائط) والصورة، التي بدت الحيطان فيها مجردة من الصور! والجزء الخامس هو صورة خلفية لفتاة واقفة تحدق ولهى بالجدران وأبوابها والدربونه، وهي تمثل انزياحا بيّنا عن الصورة، لاسيما وهي تعتمد اللصق، صورة الفتاة ملصقة على صورة الدربونه البغدادية، وهي لا تمثل (الصور على الجدران)، لافتراض أن تكون وجوه الصور الى الأمام.. فضلا عن موقع صور العائلة على الجدران الداخلية للبيوت، العلاقة بين صورة الفتاة، وهي جزء من عتبة الغلاف، وبين العتبات الأخرى للغلاف ستكون مع العتبة الأكثر حقيقية، وهي المؤلفة: تسيونيت فتال، أو – في احتمال أضعف - هي صورة نورية بطلة الرواية، سحبت من المتن الى الغلاف، لتشير الى قراءة المصمم للرواية.
واذا كانت العلاقات بتلك الدقة، بين عتبات الرواية، فإن علاقات العتبات بتلك الدقة، والقوة أيضا بالمتن، الذي يتشكل مسرحه من الحارة البغدادية في النصف الأول من القرن العشرين، حيث الشناشيل، في الأزقة الضيقة والملتوية باستمرار، في منطقة شارع الكفاح، وهو الشارع الثالث ابتداء من نهر دجلة، ذلك الشارع الذي تبدل اسمه من غازي، الملك الثاني للعراق، الى الكفاح، في حقبة المدّ الثوري، وفيه عدد كبير من الأحياء السكنية، وفي كل حي مجموعة أزقة وحارات أخرى أصغر ذوات أسماء، وتحاول هذه الرواية أن تصف حي التوراة، وسوق حنون، اليهوديين في منطقة قنبر علي، أو بالقرب منها.
تحاول هذه الرواية أن تكون عراقية، بوجود آثار واضحة لجهود حثيثة بذلت لذلك، لكي تكون ضمن مجموعة الرواية اليهودية العراقية (رواية اليهود العراقيين: فهرست د. نجم عبد الله كاظم، ص144)، لكنها – حسب النص فقط – مكتوبة من قبل شخص لم يعش في العراق، فلا يمكن لعراقي من أي إثنية كان القول: "عكّرت مياه نهر دجلة العكرة مزاجها الصافي بعض الشيء" (ص15)، هذا كلام من لم ير نهر دجلة ولم يشرب من مائه ولم يسبح فيه!!! ليعتمد على كلام الأهل والأقارب من اليهود العراقيين المسفرين عام 1951، والاستعانة بقراءة عدد من الكتب التاريخية أو غيرها، يؤكد ذلك تفشي الأخطاء في الرواية، والوصف المحدود، على الرغم من محاولة إعطاء أهمية لوصف الأماكن والبيوت ومرافقها بدقة، لكنه وصف ناقص، ومحدود ومضطرب، فضلا عن وجود أخطاء في أسماء الأماكن أو مواقعها، وأخطاء في أشياء أخرى توثيقية، منها تعاطي ضباط الجيش العراقي الرشوة (ص166- 167) سنة 1933، وهو ما لا يقبل به حتى الشخص الذي يكره العراق، لأنه مضاد للحقيقة تماما.
تبدو (الصور على الحائط) غيتو سرديا، افتراضيا، داخل غيتو تاريخي، ليست لديّ معلومات عن طبيعته، لكن الرواية رسمت الغيتو اليهودي في إحدى المناطق الشعبية في بغداد في النصف الأول من القرن العشرين؛ وتؤكد التأريخ بوضعه في عناوين الفصول، وعلى الرغم من ارتباط تلك المنطقة بشبكة من الأزقة تؤدي الى طرق أخرى ومحلات أخرى، والى الشوارع الرئيسة، إذ يفهم من الرواية أن حي التوراة – وهو مسرح كثير من أحداثها – مغلق على اليهود، لا يسكن فيه غير العوائل اليهودية، واذا تجاوزنا الصدق التاريخي فهو ليس شأنا روائيا، وبالتجاوز الحتمي لتوثيقية الرواية، لأن المؤلفة لم تعش في العراق، فإن الرواية احتوت شخصيات يهودية فقط، وركزت على العلاقات الإنسانية بين الشخصيات اليهودية فقط، ولم يكن لأية شخصية منها علاقة بأي شخصية غير يهودية، واذا سمح للمسلم بالظهور مرة أو اثنتين فسيظهر بصورة المعتدي: "بعض الشباب المسلمين الذين أهانوه وسبوه ليهوديته" (ص 139)، فقد تكون الرواية مبنية على فكرة القطيعة بين يهود العراق ومسلميه، تاريخية كانت أم افتراضية، معززة بانتشار الطقوس اليهودية وتفصيلاتها الدقيقة في المتن، واقتصار الرواية على الشخصيات اليهودية، حتى شخصية المغنية التي قد يكون فيها جزء من المطربة العراقية سليمة باشا مراد "عرف الجميع أغانيها ورددت في كل بيت في بغداد" (ص11).
وسيكون تشوه الهوية العراقية أوضح في لغة الرواية، اذا تجاوزنا عدم عراقية المؤلفة - هي عراقية الوالدين – وبالتالي عدم تمكنها من اللهجة العراقية، وأسماء الأشياء، والعلامات التراثية مثل السمك المسگوف، فلا تكون عدم المعرفة باسمه وكتابة الاسم "مزگوف" مهمة بقدر أهمية تفسيره "مشوي" (ص33)، لأن المسگوف ليس المشوي، إذ يمكن شوي السمك بأكثر من طريقة، بل لأن السگف هو طريقة شوي!!
واذا تم الافتراض بأن لفظة بوشي خاصة بيهود العراق، إذ يسميها المسلمون البوشيه، وهي غطاء خفيف تضعه المرأة على وجهها، يسمى الآن النقاب، غير ما تم تفسيره في الرواية بالحجاب (ص15)، وتطلق عليها اسم "الطرحة" (ص50)، وهي كلمة مصرية؛ ولكون مترجم الرواية غير عراقي، فيستبدل كثيرا من المفردات العراقية، أسماء الأشياء خاصة، بأسمائها المصرية الأكثر اشتهارا: "السمبوسك" (ص37) و: "الكفتة" (ص193) وغيرها، وأحيانا باللهجة الشامية، وهذه الخلطة الفريدة من نوعها "السمبوسك المحشو بالحمص المطحون مع البصل والكمون والعمبة الحارة والخبز الطازج" (ص15)، هل يوضع الخبز في السمبوسك؟ وليست تلك الخلطة إلا لبلبي مسلوق - وليس حمصا مطحوحنا - في الصمون مع العمبة، أو "البعبع بالتمر" (ص37)، والمترجم لا يعرف السيلان – بتسكين الياء وهو الدبس الخالص- وعسل التمر ولا يفرق بينهما، فضلا عن عدم عراقية (عسل التمر)، بالعراقي الدبس مطلقا! معروفا لا يحتاج الى تعريف! أو استخدام كلمة خطاب وخطابات (ص181) التي لا توجد أبدا في أدبيات اللغة العراقية؛ للدلالة على الرسالة، والعراقيون يسمونها مكتوب، لتكون أسماء الأشياء والأمور التراثية باللغة العراقية شبه غائبة.
وتأتي المفارقة في اهتمام الرواية بالمكان، ربما للإحساس بالفقدان، أو محاولة توثيق تراث الأهل، أو محاولة الانتساب الى ذلك المكان، كل ذلك يؤدي الى توكيد الرواية على وصف المكان، والاعتناء بتفاصيله، تلك التفاصيل الدقيقة للبيت والزقاق والمحلة، على الرغم من وجود بعض الأخطاء في ذلك، فالمفارقة تكمن هنا، في الاهتمام والأخطاء التوثيقية، بل عدم المعرفة أيضا "توجهت صوب الحي الراقي" (ص16) فلا يذكر اسمه، ولا تحتوي الرواية إلا على باب المعظم ومستشفى المجيدية، وربما سيكون الاقتراح غير مناسب لو تركت الرواية اهتمامها بالمكان! فربما سيبعدها ذلك عن العراق أكثر.




Post A Comment: