في جملة لا أذكر أين قرأتها تقول مامعناه، إن البشر وهم كائنات ذكية، هبطوا على هذا الكوكب، اخترعوا مايسمونه المعرفة، ولحظة الاختراع هذه، هي أكبرماشهده التاريخ الكوني من عنجهية، فالطبيعة في لحظة ما ستقول كلمتها.
وقد اوردتُ هذه الجملة، لعلاقتها كما اظن بالموقف الفلسفي الذي عرضه هذا الكتاب. والقارئ حين يفحص السياق الشعري، سوف يجد العديد من المؤشرات التي تحيلنا الى هذا الموقف العدمي، الزيف والتبجح، والذي يحدث بتأثير اختراع المعرفة، هذا الاختراع الذي يعبر عن الذكاء، والذي يقابله في نصوص المجموعة موقفا عدميا تتضمنه مفردة الفراغ، والتي تكررت كثيرا في نصوص المجموعة.
والمجموعة الشعرية ( قبلة الماء) تقدم فيها عائشة بلحاج موقفا وجوديا من العالم، أو مايمكن اعتباره مزيجا بين صورة الفقد بتجلياتها الغامضة، وبين انفتاح العينين على الوعي المؤلم، الوعي بالزيف.
من ناحية الشكل، تقدم لنا نصوصها بنسق عمودي يعتمد على بنية سردية، حيث يظهر المتن الحكائي في هذا النسق متواطئاً مع السمة السردية التي ترافق اشكال الخطاب الأدبي بشكل عام، ومنها الشعر.
وفي هذا المعنى، يقول رولان بارت في تعريفه للسرد بشكل عام: إنه مثل الحياة نفسها، عالم متطور من التاريخ والثقافة.
وبهذا التعريف تظهر وظيفة التي تنطوي على الوساطة بين الحدث والمتلقي. وتظهر في نصوص مجموعة (قبلة الماء،) كذلك فرصة جيدة للقارئ كي يلاحظ وبدون جهد، اشتمال معظم النصوص على عنصرالقص، والذي يمثل جوهر العملية السردية، مشكلاً صدى في الشعري، هذا الصدى لايعني خطابا سرديا تاما، بل هو الاقرب الى ذوبان الملامح السردية في الايحاءات الشعرية.
في نص ( جارتي المقبرة) تقول عائشة بلحاج:
من المقبرة التي خلف بيتي
يمشي الموتى نحو نوافذي
يقفون تحتها ويغنون
تحت الضوء الشاحب لعمود الانارة
تضيء أجسادهم الطيفية...
وهذا النص بالذات يقودنا الى الثيمة الأساس في الديوان، الفقد، حيث تذهب الاشياء بعيدا ولايمكن ان تحضر إلا على شكل أطياف أو ندوب في القلب. فالحقل الدلالي هنا مثاليٌ جدا، يتوافق مع الشعور بالفقد: المقبرة، الموتى، الضوء الشاحب، الأجساد الطيفية. حيث تختفي القدرة على الإمساك بالمادي، ويحضرالغناء باعتباره صدى الزمن، إذ يبدو كل شيء مغادراً، وهذه المغادرة تتضمن اللا عودة، او العودة على شكل اطياف، أو صدى أغنية تحت النافذة، في الضوء الشاحب للوجود.
: الأحبة الذين كثقوب في القلب،
لاتاتي منهم سوى ريح
توجع الابواب.
وهذه البلاغة العاطفية، تتكرر في نصوص المجموعة، وهو شعور منفتح على صورة الاشياء الغائبة كلها، وليس الأحبة وحسب، أما الريح هي وحدها من يطرق الأبواب. هذه الالتقاطة تحيلنا الى فكرة الوعي المرن، وهو يعبرعن استيعاب الازمة الوجودية، ممزوجة بهذا الحنين الذي لايمكن التقاط حضوره الا من خلال الابواب التي لو فتحت لن يجد المرء أمامه سوى الفراغ.
ويتكاثف الشعور بالاغتراب والعدمية في نصوص كثيرة أخرى داخل هذا المتن الشعري، حيث تظهر قصديات الشعري موجهة الى موقف وجودي، يتفاعل مع نموذج الغائب، صورته التي لاتأتي إلا كونها فراغا، هكذا يشعر من يفتح يده، ويقبضها، يفتحها ويقبضها لكنه لايمسك سوى الفراغ.
: لست ابنة أحد
لست احداً
أنا طيف نساءٍ قُطّر دمهنّ.
وهذا الاغتراب بالطبع له محرضاته، فالقصد الشعري يتجه الى تلك الرغبات المقموعة، المتكلسة التي لم تجد لها نافذة لكي تطل على العالم. يحدث ذلك بسبب الإرث الابوي باعتباره استعارة وجودية، فيحضر دالاً مهيمنا، يقودنا الى طبقة اعمق تنطوي على ثنائية الذكورة والانوثة، السلطة الضاغطة، والتي تخلق دائما فضيلة عند الكائن مسلوب الأرادة، هي فضيلة الفرار، لكن تحقق هذه الفضيلة ليس متاحا دائما، ربما من خلال الكتابة، أو من خلال الصوت، الغناء لذي ينبعث من تحت النافذة، انه في الحقيقة صدى الزمن. تقول عائشة في نص آخر
ورثت عينيّ أمي،
ومن أبي عمق النظرة
حدتها التي
خففت مالمع من رغبات في القاع.
وهذا مايجعل فضيلة الفرار هاجسا دائما، سؤالا محيرا، أو محاولة اخيرة للنجاة، حيث تقول في نص( الهيكل العظمي لوردة)
أكتب عنه
ذلك الذي يحمل وجه أبي وصوته
: هات يدك. يقول
فأهرب.
والكتابة هنا هي الوجه الآخر لفضيلة الفرار، الصورة المناقضة للانغلاق داحل سرداب المهيمنات، حيث تقوم الكتابة نفسها باخراج الرغبات التي في القاغ. فيظهر في المجموعة صوت الأنثى بشكل واضح، انه قبلة على الماء، والنجاة دائما هو في الخارج، أما الانغلاق داخل الفضاءات التي يهيمن عليها الابوي، هي تمثيل للموت، وان استجواب النفس لتخليصها من القيد هو المحاولة الاخيرة لنزع قناع الحكاية القديمة المكررة، هذا ماأرادت عائشة ان تقوله في النهاية!
بخفة سمكة اكتشفتْ أصلها المائي
أنزل الخطوة
خلف الاخرى
أطفو على الكؤوس ولاتفيض بي
أروي عطش غيري
وبي يباس صحراء.




Post A Comment: