كانت دموعه مزعجة في ذلك الموكب الكئيب، صحيح أن الموقف قد يستحق ذلك وأكثر، فالجار قسيم للجار، ليس في الشعير فحسب بل المشاعر أيضا، ذلك ما كان يقول الحكيم المجنون لحييهم الشعبي القديم، لكن أن ينبع من عينيه فيضان من الدموع بذلك الحجم، لم يقوى على تجفيفه مدد المناديل الثالثة لأشقائه بعد إذ استحال الأمر على منديله الوردي القيدم، فذلك لم يكن إلا ليزيد من تبرم وتذمر العائلتين.

أمسكه شقيقه من يده وهمس في أذنه:

- توقف أرجوك لقد فضحتنا في هاته الجنازة،ألا تدرك أنه قد يلتف حولك الجمع بعد نهاية الدفن ليعزوك ظنا منهم أنك قريبها..

أجاب بصوت أجش متقطع تقطع قلبه من الحزن:

- وما الضير، أليست قربتنا بالجوار؟

- ما اختلفنا، لكن..  أرجوك سيعدينا مظهرك  المقزز هذا إلى عراك العشرين سنة التي مضت!

ثم راح يذكِّره بذلك اليوم الذي قلبت فيه تلك الساعة الباريسية اللعينة ذات السوار المذهب والصحن الفضي المتلألئ على شكل قلب حب، كل شيء كان بين العائلتين، يلومه على أن غير خياره الأول في سوق الهدايا..

- فقط لو أنك أبقيت يومها على خيار الحذاء الأحمر ذي الكعب المذبب العالي، كما أخبرتني، لكان بوسعنا تلافي المسخرة، ولقلنا ساعتها أن الحذاء كان لأختك وليس لجارتك، فقط لأنه لم يكون بقياس قدمها أهديناه أياها، لكنا تجنبنا تلك المعركة التي فاض صداها وصداعها الجارف من أزقة الحي ليسيح بشوارع المدينة!

- لكني..

- نعم أعرف أنك كنت محيطا بكل مقاساتها، قدميها، قدها وخصرها ولربما كنت تعرف حتى ما باحشائها لأن كنت ولها متيما بها، وتلك هي المصيبة التي فرقت بيننا وبيناهم يا أحمق، لقد كانوا إلى تلك الساعة جيراننا المميزين!

أرخى السمع لذلك الكلام الذي لم يكن بقادر على إطفاء حرقته، وهو يحمل قدميه إلى تلك المقبرة التي تكاد تمتلئ والحديث صار منذ فترة يدور حول الشروع في تهيئة أخرى ليست عنها ببعيد، ثم عاد شقيقه محاولا إلجامه وسد كل ينبوع من نفسه سائل بدموع الماضي:

- ماذا يقولون للناس فيما لو رأوا المعزين يلتفون حولك، بحسبان أنك زوجها أو قريبها، كيف سيفسرون ذلك لأولادها؟ هل تعرف ما الذي سيحصل عن عودتهم للسرادق وبعدما ترفع سُرادق العزاء..

كان يرى في كلام شقيقه بعضا من الصحة، فالأكيد سيسأل أبناؤها أباهم وأخوالهم عنه، من يكون؟ ولمَ بكى بكل تلك الحرقة التي فاقت حرقتنا كعائلتها، لا يعلمون بتلك الأيام التي كان يستعجل فيها العودة إلى البلاد من باريس الغجرية بشقرة الشمال، محملا بهدايا لها كان يتعب لملمة قيمتها هناك، يدرس بالنهار ويشتغل بالليل في مقاهي وملاهي باريس، يشعل سيجارات الغواني، وأسياد المال، يلغسل ذلك الثمن البخس ويركمه في علبة ادخاره حتى إذا ما تضاعف وصار قادرا على انتزاع هدية من واجهات محلات بيع الهداية بباريس أخرجه من علبته!

تذكر ذلك اليوم الذي جاب كل شوارع بيع الهدايا الشهيرة بحقول الإليزي المضيئة ليلا ونارا، بحثا عما كان يسعدها من تلك الهدايا، لم يذكر أنها كانت مهوسة بالخاواتم الذهبية، وطبعا لا يمكنه التجرؤ باهدائها الذهب فأول ما سيكتشف على أصبعها سيكسر الخاتم وقد يقطع الأصبع معا، قبل أن يصله كاسر الهدايا وقاطع أصابع النساء، ليكسر رقبته!

كما واستذكر ذلك الجوع الذي اسمات في مكابدته، لأجل جمع ثمن المكالمات الهاتفية التي كانت تجمعهما خلسة مرة كل أسبوع ببيت خالتها، ويضرب بالسامعة بقوة على صندوق الهاتف، عندما يدق جرس الانقطاع مؤذنا بنهاية ثمن المكالمة، وقتها تشتعل فيه كل نيران اشواقهما المتبادلة، ونيران الأسبوع القادم من العمل الشاق بكنس الملاهي للملمة ثمن صوتها الرقيق العذب الذي ينسيه أخبار الرصاص االمتعالي في عناوين نشرات الأخبار في العالم عن الجزائر، ونيران الجوع الذي يكاد يفتك به مع برد باريس القاتم القاتل يعجزه عن الرتكيز في دراسته بالجامعة، فلا يجد سوى نار السجائر ليطفي صور تلك النيران!

عاد إلى المقبرة، مسح الدموع بثالث مناديل اخوته، وابنه الذي حلَّ معه لأول مرة بتلك الأرض الصهباء، غارق في التعجب، لم يره يوما بهذا المنسوب من الدمع ولا هذا بهكذا إعصار من الحزن، صحيح أنه لم يكن بالمقابل حنونا وعطوفا طيلة السنوات العشرين مع والدته، إلى حد أن يسمعه يناديها بكلمة حبيبتي، أو حياتي أو روحي، فالحجر الذي بنى به الاستعمار أساس الحي القديم لا يزال قائما وليس فقط منقوشا عليه عاطفة مترجمة من الفرنسبية إلى العربية، فضلا عن أن يقبِّلها ولو على جبهتها وهو يغادر البيت كل باتجاه مكتبه بأحد مصارف باريس أين يعمل كمستشلر قانوني، بل كان عشقه للسيجارة لديه غير ذي مثيل  يخشى أن تنتهي علبتها في منتصف الليل فيحرص على التقصي للاحتياط من فقدان السيجارة اكثر من حرصه على صحة أمي، ويذكر يوم أن سأله:

- أبي منذ متى بدأت تذخن؟

- من قبل أن تلتقطني والدتك متشردا..

- أين تحديدا هل هنا أم بباريس؟

- بباريس؟ بباريس لم يكن بوسعي الحصول على ما يغذيني فكيف بسجارة الذخان

- صحيح قالت لي عمتي أنك كنت لا تستطيع أن تقتني الهدايا ولا حتى أن تشتري طوابع الرسائل لتبعث بها إليهم، كانت فترة صعبة!

فتبسم حينها من آسف ابنه عليه وهو  يقرأ في ذهوله  الذي علا في صمت وجهه البريء  أسئلة مقلقة:

“ما الذي حصل ، هل اختزن كل هاته العاصفة من العاطفة ليرمي بها في المقبرة القديمة على لحد ابنة الجيران؟”

آلمه كل ذلك الكلام الصامت المشتعل بمؤشر العيون والنظرات، للجيل القديم والجديد من العائلتين، لكنه لم يكن قط خائفا، لا خوف من مشكل جديد قد ينشب، ولمَ عساه أن ينشب، صحيح أن جريمة الحب لا تسقط بالتقادم هنا بالحي القديم بل حتى بالأحياء الجديدة المشيدة بطين العرب.

لحدوا حبه القديم، ورشوا القبر بالماء ثم غادروا جميعهم مسرعين باتجاه باب الخروج عائدين إلى المدينة، أما هو فبقي لوقت إضافي بموضوع وقوفه، يلقى بناظره إلى الجبل المحاذي للمقبرة ثم ينزلق به إلى صحنها الذي ضاق بما رحب من قبور، وتساءل أي قبر قد يكون اليوم أو غدا نقطة النهاية على سطور قصة هاته المقبرة القديمة المدون أسماء أبطالها على شواهد الحديد والرخام، كلما قرأها استحضر صورة صحابها، جلهم طلب الرحمة بتلك الصحراء في حياته ويطلبها على شاهد قبره في مماته، ثم تساءل من سيكون كلمة البداية لتلك التي ستفتتح بمحاذاتها، أدخل يده بجيب ستراته الداخلي سحب كشف الفحص الطبي الذي استمله قبل العودة النهائية من باريس الأسبوع الفارط، أعاد مرة أخرى قراءة التوصية المكتوبة أسفلها بالأحمر : “ضرورة الشروع الفوري ودون انتظار في علاج الكميائي، بسبب ضرر كبير بالرئتين ناجم عن تدخين مفرط قديم” تبسم وهو يرى نقاشا حادا بحظيرة سيارات المقبرة بين أخوته واخوتها، لا يستدعي هاته المرة الهروب إلى منفى جديد، فدعك الأعلبة بقوة براحة وألقى بها في مزبلة بمخرج لمقبرة، وأشعل بعدما السيجارة الأخيرة!








Share To: