قاعدٌ بجانب باب غرفته، مُنكس رأسه إلى الأسفل، حاضن لركبتيه بكل قوة، يفكر بعمق ولسانه تتمتم بالدعاء، كان دعاء من نوعاً آخر، دعاء الخلاص من العار الذي يلتحق بإسم الأب إذا رزق بطفلة، بناته الصغيرات بجانبه، "روضه"  أبنته الكبرى والتي يبلغ عمرها السادسة سنه، و"خولة" أبنته الصغيرة وعمرها لم يتجاوز الثالثة سنه، رفع رأسه ونظر نحوهن بأسف وقال :
- إن شاء الله ولد، ثم نظر نحو الباب واردف بلهجة أمر : قولين إن شاء الله.
- إن شاء الله. نطقن بناته الصغيرات وكل واحدة قاعدة بجانب الأخرى، ينظرن نحو والدهن وعلى وجهه علامات القلق والحيرة والارتباك، أسئلة تدور في رأسه محملة بأفكار جميلة وأخرى مخيبة للظن، كان يسأل خياله بصمت مريب: ماذا إذا أتت فتاة؟ وماذا إذا أتى فتى؟ إذا أتى فتى سوف اعزم كل أهالي القريه واذبح العجل الصغير واقيم سابع "حفلة يوم الختان" ماقد صنع مثله أحد! ولكن .... ثم صمت قليلاً ونظر نحو خولة وسأل خياله عله يدلي بأجوبة مقنعة له تخرجه من إعصار القلق الذي يضرب بحر روحه المحتدم بامواج عظيمة تريد أن تقتلع روحه من جذورها: ولكن إذا أتى عكس ما أتوقع؟ لدي طفلتين وهذه ستكون الثالثة! لا لا لا أريد ولد يحمل اسمي وافتخر به بين أبناء إخوتي.

- صوت قوي يشق هدوء الليل، زوجته تصارع ألم الولادة في الداخل مع الحجة أسماء المشهورة في القريه من حيث مساعدة النساء على الولادة الطبيعية، صوت اخر طعن سكينة الله، الفتيات يبكين في الخارج، خائفات على والدتهن، مترقبات للبشارة التي ستخرج إليهن، كانت امنيتهن طفلة صغيرة تتوج منزلهم الصغير، ولكن والدهن لم يكشف عما يجول في خاطره أمامهن تادبا.

تتصبب عرقا وصدرها ينخفض ويرتفع بسرعة كبيرة، وجهها تحول إلى أودية دماء من الاحمرار، تعض على شفتها السفلى ولكن الحجة أسماء لمحت ذلك واحضرت لها عود خشبي صغير كان مغروس على حائط الغرفة لتعليق الثياب، عضت على العود بكل قوة وبدأت تأخذ نفسا عميقا وتخرجه بكل قوة والحجة اسماء تساعدها من أجل التخلص من تلك الحالة التي كانت فيها، صرخت مرة ثالثة ورابعة ولكن دون جدوى، وضعت الحجة أسماء مخدة متوسط تحت خصرها من أجل أن تساعدها بشكل أكبر، كانت زوجته تصارع الموت من أجل أن تهب الحياة لذلك الطفل، تواجه الألم من أجل أن تخرج الطفل من ضيق الرحم، لقد حان خروجه، لقد انتهت فترة إقامته في مكان سيود يوماً آخر بأن يعود فيه، تتنفس بسرعة كبيرة، تتشبث بخيوط الفراش الرقيق، وتقاوم من أجل البقاء.

- أباه. دعته أبنته الصغيرة خوله بصوتها الرقيق ولكنتها الجميلة، بدأ النوم يغزو عينيها، جفونها أرادت أن تنسدل من أجل الراحة، نهضت بقامتها الطفولية وفستانها المزركش بألوان زاهية ولكنه كان ممزق من بعض الأماكن وتم ترقيعه بواسطة قطع من ملابس أخرى.
- ايوه يا بنتي! رد عليها بذهن شارد!
- لما تجي أختي الصغيرة صحيني!
نظر إليها والدها بنظرة مختلفة، نظرة تحمل الشؤم والاحتقار، نظرة تحمل على متنها معاني جسيمة، ثم تحرك قليلاً وقال لها:
- أدخلي نامي، ولما يجي أخوك شصحيك.
- تمام. ثم استدارت إلى الخلف واتجهت نحو الديوان الصغير الذي كان يتوسطه الفانوس، أطفأته بنفخة من نفسها الصغير ثم رمت بجسدها على الفراش وروحها مازالت منتظرة أمام الباب لتستقبل أختها القادمة.

نهض من أمام الباب وبدأ يحوم في منزله الصغير وكأنه اسد محاط بسلاسل المصيدة، بكاء طفل قادم الى الحياة انتشرت في المنزل، بكى الطفل كثيراً، دون توقف، ليس مثل الاطفال الآخرين من يبكون قليلاً ثم يصمتون، لعل هذا الطفل كان يشاهد مستقبله ويبكي ندما واسفا على خروجه من جنة الرحم الذي كان يحتويه، مازال يبكي، اتجه الزوج ناحية الباب، طرق عليه بقوة ثم تابع الطرقات برفق، قلبه يغلي وكأنه إبريق على نار، نار هائلة تستعر في واحة روحه، صمت الطفل، ثم سمع صوت خطوات تقترب من الباب، يحك رأسه، يبلع ريقه، ثم فتح الباب.

نظرت إليه الحجة أسماء بفرح، نظرة عينيها تبشر بقدوم ضيف جديد طالما حلم به، ابتسمت وهي ترفع الفانوس إلى مقابل وجهها لتنطق بالبشارة، أبتسم الزوج، السعادة تغلبت عن قلقه، لقد تحقق حلمه، أنه رزق بطفل سوف يسميه على إسم والده - هكذا فكر.
- بشري يا حجة اسماء... والفرحة  تداعب غريزته لرؤية ملآكه الصغير.
- بشرك الله بوجه النبي.
- اللهم آمين، صُبا وإلا بُنيه؟" فتاة ام فتى؟"
- ألف ألف مبروك يا ناجي.
- ولد صح، الله يبارك فيك. ثم ضحك ضحكة خرجت من اعماق شعوره، رفع رأسه ويديه إلى السماء مبتسماً وعينيه مغمورتان بالدمع وقال: الحمد لله يارب.
- إيش تسمي بنتك الضيفه؟
- إيش؟!!!! ثم ألتفت نحوها وقد تجرد من كل الشعور والفرح والنشوة بقدوم ضيفه الجديد.
- معك بنت، ألف مبروك.

استدار من أمامها واتجه نحو السطح  صاعداً ليبث حزنه وغيضه لله، ومن أجل أن يعاتب الله في خلقه، فالقد زاره العار للمرة الثالثة على التوالي.

تمت





Share To: