منذ يومين لم يبرح غرفته ، في النهار يجلس إلى مائدة الأكل ، يلتهم أكله بسرعة ثم يمص أصابعه الطويلة ، المغسل في الجهة اليمنى لباب الغرفة ، ولكن غالبا لا يغسل يديه بعد الأكل وقبله .
ينظر إلى رف خشبي مثبت على الحائط أمامه ، مليء بالسكاكين والملاعق ، تمتد يده إلى سكين ضخم ، يحكمه بكلا يديه ويصوبه نحو بطنه ، حتى يشعر بحربة السكين تضغط على زر قميصه .
هو يعلم جيدا ، أن لولا هذا الزر سينغرس السكين في أحشائه ، وينزف دما كثيرا .
يرفعه عاليا بيد واحدة ويلوح به كما يفعل السياف في المعركة ، تسمع حركات السكين الخاطفة في الهواء . تهدأ يده ويعرض سكينه لأشعة شمس المساء المتسربة من النافذة ، ويروق له لمعانه الشديد ، ينظر إلى وجهه المتعملق في مضية السكين ، ثم يطلق ضحكة مجلجلة ويسكت بعدها عائدا إلى شروده السابق .
يرفع أكمام سترته ، وينهل على سطح المائدة نقشا بالسكين ليتم عمله الذي بدأه يوم أمس ، أو قبله بأسبوع . هو لا يتذكر متى بدأ ، ومتى سينتهي منه .
عديدة هي الأشكال التي رسمها .
مضمون الرسم تحدده زاوية نظرك للمائدة ، فالشكل الذي يراه الجالس ليس هو الشكل الذي يراه الواقف .
الامر المشترك هو أن كل من ينظر إلى لوحته ، سيرى خطان متوازيان يقطعان المائدة كأنهما نهر جارف ، وفي وسطه يوجد قارب صيد صغير فوقه شمعة بضوء خافت ، النهر ملون بالأزرق ، والقارب بلون أسود ، والشمعة رسمها بالأبيض وفتيلها بالأصفر الباهت .
هذا هو المنظر الذي يراه الجالس والواقف على حد سواء . الإختلاف سيكون حول مجرى النهر . الجالس في مكان الرسام سيعتقد أن النهر متدفق نحوه . والواقف الذي يرى الرسم من الأعلى ، سيبدو له النهر متدفق نحو الحائط الذي لصقته المائدة .
واذا حدث وسألت الرسام الضاحك ، سيقول لك ، إن النهر ثابت في مكانه لا مصب له .
والرسومات الأخرى المتناثرة على سطح المائدة ، لا أحد استطاع فهمها أو قرائتها . أسفل المائدة المستطيلة يوجد متاع كثير ومغبر ، تسمع خشخشة الحشرات وهي تدب وسط علب الكرطون الفارغة ، والكتب المتناثرة ، حينما يجلس إلى مائدته يدس قدماه الحافيتين وسط فوضى أسفل المائدة ، كما يفعل موظف ما حينما يجلس في مكتبه .
وإذا حدث وتلامست أصابع قدمه مع حشرة ما ، فإنه يخرج قدمه بسرعة ويصعد فوق المائدة ، ممسكا فردة حذائه وينحني بوجهه مستكشفا أسفل مائدته بحثا عن تلك الحشرة ، التي أفزعته ليلقي بها خارج غرفته . هو لا يعمل بمبدأ إذا أردت القضاء على الذباب فجفف المستنقعات ، الحشرة المتمردة تدفع الثمن ، عادة لا يقتل المتمردة بل يرحلها .
في تلك المرة التي أفزعته تلك الحشرة ، وصعد فوق مائدته كعادته مثل طفل صغير ، رأى حشرة ضخمة سريعة الحركة ، تخرج من المتاع زاحفة نحو الباب ، قفز يهش عليها بفردة صنداله ، تبعها في تلك الردهة حتى خرجت في شق الباب وعتبته ، فتح الباب وتبعها ، ثم وجدها متريثة في درجة إسمنتية وهي تحرك مجساتها حائرة في أي اتجاه تسلك ، جلس الرسام قرفصاء وهو ينظر إليها .
في الزقاق انفتح باب جيرانه بعنف وتقيأ كوكبة من الصبيان والنعال تتقاطر عليهم ، بقيت الحشرة في مكانها ، حتى داست عليها إحدى تلك الأقدام المهرولة ، وتحولت إلى بقعة دم ، تحسر الرسام الضاحك هو لم يكن ينوي قتل تلك الحشرة ، أصابه ندم شديد وعاد نحو مكتبه ليضع خربة سكينه فوق صدره ، لكن هذه المرة ، قد يضعها على لحمه مباشرة ، وليس على زر قميصه .


Post A Comment: