عندما ينطلق ٱلْمُبْدِعُ من أرض مغايرة ليزرع شتلاته ..يسْكُبُ عليها من ماء روحه ماء زللا يكون ٱلْأفق مغايرا ..
سأتناول في هاتِـه ٱلْقراءة ٱلْمجموعة ٱلشّعرية" لا أوبِّخُ أحداً"؛* للْمبدع ٱلْمغربـي" ٱلْمصطفى ملح"؛** ٱلصّادرة عن دار مقاربات عام 2018م.
تتوزع هاته ٱلْمجموعة ٱلشِّعرية إلى خمسة فصولٍ تستغرقها 103 صفحة وشهادتان لكل من ٱلشّاعر ٱلدًكتور" أحمد بلحاج آية وارهام" بعنوان: " تكلم بلغة ٱلنّاس فأتْقنَ لُغةَ ٱلْآلة" و " شعرية ٱلْأسْطوري ٱلْيومي في لا أوبِّخُ أحداً" بقلم ٱلشَّاعر ٱلدكتور"مصطفى ٱلشليح".
يَسْتَهِلُّ ٱلشَّاعِرُ مجموعته ٱلشّعرية بعنوانٍ رئيسٍ " تمارين لابُدَّ منها"؛ وكأنّهُ يعلنُ عن ضرورة ٱلْاستعداد ٱلْجَيِّد لامتحانات عدة..فما تراها طبيعة هاتهِ ٱلتَّمارين ٱلّتي أضفى عليها طابع ٱلْإلزامية وٱلضَّرورة.
((تمرين ضدّ ٱلْكراهية))
هو ٱلشّاعرُ يترفّعُ عن لومِ وعتابِ ٱلْآخر،قلبهُ يسعُ ٱلْجميع.
إنَّ عتبةَ ٱلْعُنوان وحدها "لا أُوَبِّخُ أحداً"؛ نص يحفلُ بمشاعر نبيلة، فهو ٱلْكائنُ ٱلّذي يترفَّعُ عن دائرة ٱلتَّوبيخ؛ إذ يزرعُ رُوحهُ في تُربةِ مَحبَّةِ ٱلْجميعِ..
ومن ثمّةَ ينفِي أن يكونَ ٱلتّوبيخ من سَجاياهُ..
يَحْتفي بنبلِهِ وبتسَاميهِ عن كلّ مامن شأنهِ أن يجْعلهُ في شنآن مع ٱلْآخر.
إن ٱلشاعر تحول إلى حطّاب يجول في معاني ٱلْجمال ليوزّعَ أفنان هذا ٱلدّيوان على كل مُتذوقٍ لجداول ٱلْجمال لأنّ ٱلْعالم في نظره مُجَرّد غابة.
يقول :
تركْتُ ٱلشّعْر...وصِرْتُ حَطّابا..
لا يعرف ٱلشَّـاعر غير لغة ٱلْحُبّ ..لا مكان للضّغينة في قلبهِ، سمحٌ..حليمٌ؛
إلى كلّ حطّـاب غريب
هذه ٱلْأغصـان
ٱرتضى أنْ يتدرّبَ على محوِ كل تمرينٍ يُحرّضُ على ٱللاّحب وعلى ٱلْكراهية.
يقول:
أُسامحُ ٱلنّجَّار؛
ذلكَ ٱلذي سَيَصْنعُ ٱلتَّابُوتَ خَاصَّتِي،
وَيُلْقِي زَهْرَتِـي دَاخِلَهُ!
...
أُسامِحُ ٱلرَّصَاصَةَ ٱلتِي مَشت في بَيْتِي،
وَحِينَ غادرتُ، قُبَيْلَ مَصْرَعِي لمْ تَعْتَذِرْ!
لاَ يكُفُّ ٱلشَّاعر على نَهْج سبيل ٱلتّسامحِ وٱلْحِلْمِ ..مجْبُولٌ هو على تمارينِ ٱلْحُبِّ..يتفيأُ ظلالهُ ..مُضرّجة روحه في ألوانِـه.
وفي ٱلتَّمْرين ٱلثاني " تمرينٌ ضِدّ ٱلْعقلِ".. ص.,,7,,
...
لاَ بُدَّ من حَرْب
كثيرٌ مِنْ نِعَـالٍ يَجِبُ ٱغتِيالُها
لم يصرح ٱلشّاعرُ بضرورةِ إعْمالِ ٱلْعقلِ، إنّما ٱعتبرَ ٱلْجَهْلَ وعدم معرفة ٱلْوِجْهةِ وٱلتَّخَبُّطِ فِي أنْفَاقِ وفي ظُلمةِ ٱلْأَدْغَالِ وَ عُلبِ ٱلْوَعْي مؤشراتٌ وقرائن على ذلك.
حيْثُ ٱستحْضَرَ ٱلنّقيض وسكتَ عن مقصُودِهِ/ أرَبِهِ.
فٱلشّاعرُ يدعو إلى إعْمالِ ٱلْعَقْلِ وإلَى خَلْخَلَةِ ٱلْيقينِ عن طَريقِ ٱلتّوَتُّرِ.
أورد في ٱلصفحة ,,7,,
يقيننا هُوَ ٱلتَّوَتُّرُ ٱلْأَقْصَـى،
فَلَيْسَ غَيْرُهُ مَنْ يَتَجَلَّى عَارِياً مِثْلَ ٱلْمَطَرْ!
...
إلى قولـه:
لا ينْبَغِي أَنْ نَعْرفَ ٱلْوِجْهَةَ،
أَنْ نَعْرفَ يَعْنِي أَنَّنَا نَغْتَالُ عُشْبَ ٱلْغَدِ،
لاَبُدَّ من ٱسْتِقالةِ ٱلْحاسَّـة
كَيْ نُشاَهِدَ ٱلْغَابَةَ خَارجٕ ٱلْخَرِيطَةْ!
وَتتوَالى ٱلتَّمارين ٱلتي يُنْشِدُهَا ٱلشَّاعرُ؛ إنَّهُ كمَا تِلمِيذٍ فيْلَسُوفٍ أمَامَ مسائل عَصِيّة تحتاجُ للْحَلِّ.
فمن تمرين ضِدَّ ٱلدَّورانِ وآخر ضِدَّ ٱلشِّعْر إلى تمرين ضِدَّ ٱلْفيزياء ص 16 وتمرين ضدّ ٱلْهمجية في ص 17 وضدّ ٱلتّحْنيطِ.
لقد تحوَّلَ ٱلشّاعر إلى عالمٍ يَجُوبُ آفاق ٱلتجارب وٱلتّمارين ..لا يَكُفُّ عن مُنَاوَشَةِ ومُراوغَةِ دوائرها ٱلْمَشُوبة بٱلتَّوَتر وٱلْقلَقِ..ينْأى عن ٱلْمألوف ٱلْاعْتيَادي لِيُجرِّبَ قَوْلَ ٱلشِّعْرِ وهذا مَا يُسْتشفُّ من تمْرينٍ ضِدَّ ٱلطّلْقَةِ ص ,,8،، وتمرين ضدَّ ٱلْجَسَدِ ص "9"...الـخ.
" ٱلمصطفى ملح"، شاعر جرّبَ رُكُوبَ موج ٱلْكلمة لِيَرْتقي موج تجْربةٍ شِعْرية مُتفَرِّدةٍ مُغايِرَةٍ تَقْتَاتُ من ٱللاَّمَأْلُوفِ ومن صَرْخَةِ ٱلذَّاتِ وَ ٱلْوُجُـودِ.
يَحْفِرُ وينبشُ ويُطَرِّزُ فرائِدهُ ٱلشِّعْرية برُوحٍ فلسفيةٍ.
تتدفّقُ أنفاسُ ٱلشّاعر في هاته ٱلنّصُوص ٱلتي ترتوِي بنبعِ ٱلشاعر ٱلْفيلسُوفِ وتعبقُ ٱلسُّطُورُ بِشِعرية تنحُو مَنْحى ٱلْحفْرِ فِي جُيُوبِ وعُمقِ ٱللُّغَـةِ لاستخلاصِ دُررٍ كامنةٍ.
يَنْزعُ ٱلشَّاعرُ نحو جعلِ نُصُوصهُ تنطِقُ بصَوْتِهِ ٱلْمتوتِّرِ / لا سُكونَ في ٱلسَّطر ٱلشِّعري..
يسعى ٱلشَّاعر إلى ٱلتَّمردِ على ٱلسُّكُون وخلخلة معانِي ٱلْوُجُود من خِلالِ توتراتِ ٱلذَّات ٱلشَّاعرة ٱلتي مارست تمارينها وأعلنت عن صوتها/ صَوْتَهُ..فيمارسُ مُغَايرتهُ في بناء متنٍ شِعْريٍّ يَنْهَلُ من مشارب شتّى ..تُغذّيها ذاته ٱلتّواقة نحو كشفِ هاتهِ ٱلْأَبْعَـاد.
دائرةُ ٱلشّعرِ عند ,, مصطفى ملخ،، جسور تلاقح/ صلة وصلٍ بين عالم ٱلذّاتِ ٱلشّاعرة وذاتِ ٱلْآخر بكل تناقضاته.
يَسْعَى إلى لحمة ٱلْعالمِ وَرأْبِ ٱلتّصَدّعات وجعلهِ مُنْصَهِراً في ذات واحدة تكون ذاته ٱلشَّفِيفة ..
وهذا مايتبدَّى في قوله :
سوف أدعو ٱللّه كيْ يجعلني شمسا
يَرْنُو إلى إضَاءة ٱلْعتمات / ٱلْأعماق لأنَّ شمسَ ٱللّه وحْدَها من تَمْحُو ٱلظُّلمات وتبَدد كل ٱلْعتمات..
يتلمَّسُ ٱلصَّفَاء في أَعْماق ٱلرُّوح ..يَنْثُرُ بهاءهُ فيفيضُ ٱلدّيوان بنفحات ٱلتَّسَامُحِ وٱلْحِلْمِ.
كَائنٌ هُو من نُـورٍ شفيفٍ.
في تمرينٍ ضِدَّ ٱلْكَراهية ص"6" من ٱلديوان يقول:
أُسامحُ ٱلنّجارَ،
ذلكَ ٱلذي سَيَصنَعُ ٱلتّابُوتَ خَاصَّتِي،
ويلقي زهرَتِي دَاخِلَهُ
متَسامحٌ هو إلى أبعد حدٍّ ..لا يلقي بالاً إلى من يدفنُ روحهُ/ زهرتهُ.
يحملُ تَمارينَهُ ويفْرِغُهَا في قالبٍ شِعري..تستغرِقُهُ ٱلْحِكْمة..يعانقُ ذاته وقد تشرّبت كل معاني ٱلصّفاء فيعودُ خفيفاً إلاَّ من إنسانيتهِ ٱلْمُتَسامِية عن كلِّ ٱلنّقائصِ ٱلسّاعية نحو عالم مثالي يوتوبي..
وأنت تحفرُ في ٱلتّمارين يلْبسُكَ ضوءُ ٱلشّاعرِ ٱلْمُترفِّعِ عن كلِّ ٱنزلاقاتِ ٱلْحياةِ وتمزُّقاتها..
يَعِيشُ زُهْدَهُ ٱلشّعْرِي ٱلْأنيق وقد تخَلَّصَ من كلِّ ٱلسُّمُومِ ..وَحْدَهُ أريجُ ٱلرّوحِ ٱنْدَلقَ لِيُضِيءَ مَفَاوِزَ ٱلْعتمات وٱلْأَعماق.
إنَّ ٱلْإبداع هو ٱلْخلق على غير منوالٍ ..كذلكَ ٱلشّاعر ,, مصطفى ملخ،، من خلالِ هذا ٱلدّيوان ,, لا أوبِّخُ أحداً،، يسعى إلى رسمِ أرضٍ شعريةٍ يحرثُها بفأسِ ٱلتّجديدِ وٱلْفرادَةِ ..إذْ يُمارسُ عملية تَشْييدٍ حُرَّةٍ تجِدُ جُذورهَا في وعَيْهِ بأنَّ ٱلشّعر عرصات تحْفَلُ بجَديدِ فواكه وثمار ٱلذّات تُسْقى بِروح شاعرٍ يتَّكِئُ على تَجْرِبَةٍ شِعريةٍ مَأْسَسَها من عُيُونِ ٱلْاضطلاعِ على تَجاربِ ٱلْقُدامَى وساقها بِروحِ ٱلتَّجْديد وأمطرها بنَمْذَجَةٍ ذاتيةٍ واعيةٍ وهنا يتضِّحُ جليا صوت ٱلذّات وٱلْعالم من خلال ٱحتفائه بٱلْمتفرّدِ وسرده ٱلْمُطَرز بعشقٍ .
تتفيَّأُ عوالمهُ ٱلشِّعرية لتنكتبَ حُبّاً يَسَعُ ٱلْعالم ..يخْتزلُ سُطُوراً من فيض نقاءٍ.
لا يتنَكَّرُ ٱلشّاعرُ للجذُورِ وٱلْعُمقِ ولحالات ٱلْجِبِلّةِ ٱلْأولى وهذا مايكشفُ عنه نص" ٱلْموت ٱلْمؤقت" ص 76 من ٱلديوان.
لا نموتُ ولَكِنّنا نَسْتقيلُ مِنَ ٱلْوَرْشَة ٱلْعاطِفِيَّةِ
كَيْ نَسْتريحَ قليلاً
***
....
وَحِينَ تَعُودُ ٱلْمِياهَ إلى ٱلنَّبْعِ،
وٱلنَّوْرَساتُ إلَى ٱلشَّطِّ
نَشْتاقُ ثانية للتُّرابِ ٱلصَّديقْ
..يَمْتطي صَهْوة ٱلْحلم لِيعبُرَ حيثُ يريدُ..ليُبَدِّدَ ضَيْقَ غرفة ..
ليصرُخَ ويكُون صهِيله مُمْتدا دُونَما سَقْفٍ كاتمٍ للأنفاسِ..يعبر حيثُ ٱلْغابات وٱلْأنهار ص 82 " غرفة ضيقة".
وأنا أحلمُ أنْ يتّسعَ ٱلْعَالمُ:
إنَّ فِكْرةً واحدة تَحْتاجُ غاباتٍ وأَنْهاراً،
فكيفَ تخملُ ٱلْغُرْفَةُ نهْراً،
وَهْيَ بالكادِ تَضُمُّ امْرَأَةً بِجَانِبِي؟!
تتّسعُ ٱلْغُرفة ٱلضَّيقة وتحملُ نهراً ..هو ٱلشاعرُ ٱلْحالمُ منْ يَجعلُ ٱلْمِسَاحات ٱلْمُنْغلقة ٱلضَّيِّقة تتَّسعُ وتجري كما ٱلْأنهار.
وحْدَهُ يُؤَثِّثُ ٱلْأفضية يزرعُ فيها ٱلدِّفء فتصيرُ بِشَسَاعَةِ ٱلْوُجُـودِ .
إنّ ٱلشّاعِرَ يتحَوَّلُ إلى حَطّابٍ خيّرٍ يَرومُ نشر ٱلْمحبّة وهذا مايتبَدَّى من نصِّ ٱلْحَطّاب ص " 83" من ٱلْفصل ٱلرابع ٱلْمُعنون بـ: " غبار لا يُغادِرُ ٱلْمزهرية"
...
سَنَكْتَفِي بِصَدَاقَةِ ٱلرّاعي ..
وٱرْتِكَابِ مَحَبَّةِ ٱلنّاي!
وبٱلْانفتاح على ٱلْفصل ٱلْخامس ص 85 تتعاقب ٱلْعناوين ٱلْآتية: ٱلثُّقب ص 86 وخطأ مطبعي ص 87 وعين ٱلْبحر ص 88 وٱلشبح ص 89 وٱلنّار ص 90 وٱلنّبلة ص 91 ...إلى " ٱلتّوأم " ص 103.
حسّاسٌ جدا، لدرجة أنّهُ يَعِي كَيفَ أن جناح نورسةٍ صارَ وسيلةً للرَّسْمِ، يُصَوّرُ حالة ٱنصهار ٱلذّات وذوبانها في نص ٱلرّسم بٱلْماء ص 102.
..
فتذوبُ أَغْصانُ ٱلنَّهار،
تَذُوبُ نَوْرَسَتِـي،
أَذُوبُ ..أَنَا!
مُفَخَّخَةٌ سُطُور ٱلشّاعِر
في تمرينٍ ضِدَّ ٱلْعطش ص 10، يتمرنُ ٱلشّاعر ٱلْمحَلِّقُ في أفضيةِ ٱلْحُبِّ على ٱلصّعود وٱلْارتقاء نحو سماء خاصة كي يرْوي كل ٱلْعطْشى ..
يقول :
سأحتاجُ سماءً خَاصتي،
أحجزها في غُرفتي سَبْعَ ليالٍ
سَاعتَئذٍ لن يظْمَأ ٱلْعالم قطُّ
لايحتاجُ لوقتٍ كثير تكفيهِ ثانية ليولد من جديد وقد تشبّعت روحه ٱلنّقية بضَوْءِ ٱللّهِ ٱلسَّرْمدي..
ورد في ٱلصفحة 10 من نص " تمرين ضدّ ٱلْعطش" :
لَسْتُ أَحتاجُ سِوَى ثانية أُخرى،
لِكَيْ يَلْمَسَنِي ٱللَّهُ بِضَوْءٍ سَرْمَديٍّ
حِينَها أُولدُ فِي عُشٍّ جَدِيدْ!
يُمَرِّنُ صوتهُ ويتَمَرَّنُ على جَعْلِ ٱلشِّعر عُشْباً فيطعمه للهواء..
ثم ما يلبث أن يتقمّص دور ٱلْحطّاب لِيُعيدَ رسم ملامح ٱلْاخْضرار وٱلصِّبَا ..يرْفُضُ تحنيط ٱلْكلام لأنّهُ صارَ حَطّاباً.
يسكنه ٱلْقلق ٱلْوجودي ..فيتساءلُ عن ثبات ٱلْمَسافة وعن ٱلْجُمُود ٱلّذي ٱكتسح ٱلٍعالم؛ وهذا ما تَشِي بهِ أسطر نص " تمرينٌ ضِدّ ٱلدّوران".
..وٱلْمحطّات نائمة في ٱلسَّديمِ،
وَلمْ تَدُرِ ٱلْعَجلات ٱلتَّعِيسَةُ قَطُّ،
ولكنْ ..أَنا مَنْ يَدُورْ!
يُجَرّبُ بحِسِّهِ ٱلشّاعري تمارين عدة لينتهي إلى ٱلْانتِصار لِفَوْضى ٱلْحَوَاس ..إذْ رفضَ وتحدّى كل تمرينٍ يجْرِفُهُ بعيداً عن فَوْضَاهُ ٱلْخَلاّقَـةِ..
يغرسُ شجرة ٱلْحُبِّ وٱلسِّلمِ ويعيشُ كما راعٍ وناسكٍ بزاوية ..أنفَاسهُ مُعَطّرةٌ بِعشقِ أرضِ ٱلْقُدْسِ " أورشليم"..
قد تمرَّنَ هُو جيدا ضِدَّ ٱلنّسيان، وهذا ما يستشف من ص 18 من تمرين ضِدَّ ٱلنِّسْيانِ.
...
حَفِيدِي سَيُبْصِرُ بعد ثَلاَثِينَ عَاماً،
بِجَانِبِ دَالِيةٍ فِي مَكَانٍ بَعيدٍ،
ضَريحاً قَدِيماً يَحُطُّ عَلَيْهِ ٱلْحَمَامْ!
يمتزجُ ٱلشعر بٱلسّرد وهذا مانلمسهُ في نص " ٱلسّفر" ص 55، حيث ذات ٱلشاعر تسافر ..فتتدفق أسئلة عن ٱلْإنّيةِ ..
من أنا؟ سائقٌ ثملٌ ..أَمْ دمُ ٱلْعَجَلاتِ ٱلْقِصَارِ ..أمِ ٱلْارتطامُ الْمُؤَجَّلُ ..أمْ ياسَمينُ ٱلْقيامةِ..أمْ راكبٌ يتَوَجَّهُ نحْوَ ٱلسّمَاواتِ..أمْ عاشقٌ لِفتاةٍ مُحَجّبَةٍ تتَلَهَّى بِمَسْحِِ ٱلْغُبارْ..؟!
تثيرهُ أسئلةُ ٱلْوُجُودِ وٱلْكَيْنُونَةِ ..ٱلْموت وٱلْحياة وٱلْبَعث وٱلْقِيَامة ٱلتي في نهايةِ ٱلْأمرِ ٱستطاع رسم لوحة من ولادة وتعاقب ٱللّيل وٱلنَّهار..
يقول في ص101 :
ٱلْقيامةُ تَبْدَأُ مُنْذُ ٱلْوِلاَدة،
يُصْبِحُ خَيْطُ ٱلْوُجُودِ صِراطاً
وَيُصْبِحُ جِيرانك ٱلطّيبون زبانية
...
إلى قـوله:
حتّى إذا أشْرقَ ٱلصُّبْحُ،
جِيءَ بِنَا للإقامَةِ داخِل بَهْوٍ،
يُسَمَّى ٱلنَّهار..
يستدعي ٱلشّاعر طفولته ٱلشّقية ..فترة حُبُورِهِ وٱنتشائهِ ولعِبِهِ وفُتُوّتِهِ عندما كان يرُدُّ غارة تلميذ آخر في ٱلْمدرسةِ.
يستدعي كل ذلك بقلب طفل ويتَحَسَّرُ عليه لأنّ عطلة نهاية ٱلْعام كانت تحرمه من كل هذا ٱلشَّغب (( نص ٱلطفل ص 70)).
يستوعبُ ٱلشّاعر عمق ٱلْأشياء ..حركاتها،فيستنطقُ صمتها وكل مكوناتها بِوعيٍ كما لو أنَّهُ باحثٌ أركيولوجي يستهويهِ علم ٱلْآثار فَيَنْبري للتّنقيب وٱلْحَفْرِ لِيُطَرِّزَ من ٱلْموجودات وٱلطّبيعةِ لوحات ومعانِي وصور قد يغْفِلُ عنها غيرهُ.
في نص " ٱلْعناكب"، ص 74 يقول:
للعناكب فَوْقَ ٱلْغُصُونِ بُيُوتٌ،
بيوتٌ من ٱلْقَشِّ آيَلَةٌ للسُّقُوطِ،
ولكِنْ على كُلِّ حالٍ بيُوتٌ
وَ لكِنَّنِي قد رأيتُ ملايينَ في وطني،
لا بُيُوتَ لَهُمْ!
تستوقفهُ أشجان بني جلدته ٱلّتي لا تملكُ حتّى أوْهن ٱلْبُيُوتِ ..ينقلُ مايعيشونه من بُؤْسٍ وَتَشرُّدٍ، فهو من خلال ٱستحضارِهِ لبيوت ٱلْعناكب إنّما يُلْمِع إلى بؤس هؤلاء ومُكابداتهم ..فلا يملك من أمرهِ سِوى ٱلْعيش في كَنفِ ٱلْحلم لتأثيثِ عوالم حالمة تستغرق هؤلاء ٱلْمُسْتصعفين في ٱلْأرض.
يقول:
مَرَّتِ ٱلسَّنواتِ عَلَى عجلٍ،
وأنا في ٱلنّهاراتِ،
أَحْلُمُ بٱلْانتِشَاء إلَى مَلَكُوتِ ٱلْعَنَاكِبِ!
على ٱلْهامش أورد / نص ٱلْمرأة ٱلتي زلزلت عَرْشِي
ما حاجةُ ٱلْقلب للألفاظ وٱلْجُمَلِ
سأَكْتُبُ اِسْمَكِ بٱلْآهاتِ وَ ٱلْقُبَـلِ
فَوْقَ ٱلْغُصُونِ ٱلْحِسَانِ ٱلْخضر أكْتبُهُ ..
يسترسلُ ٱلشّاعرُ بٱلتّغَزُّلِ في معشُوقتهِ/ حبيبتهِ ٱلتي أضْفى عليها من صفاتِ ٱلْحُسْنِ وٱلْجَمالِ ما يجْعلُ منها امرأةً فوقَ كلّ ٱلْاعتبارات ..لذلِكَ تَوَّجَها امرأة مزلزلةً ..فٱلزّلزالُ وإن كان مُدَمِّرا إلاّ أنه هنا إلى كون ٱلْحبيبة قد تمَكّنت من قلبهِ وسكنت وجدانه فجعلته يهيم بها كلفاً وعِشْقا وشَيّدَ لها مملكةً وتَوّجَها ملكة على عرشِهِ.
يقول في ذات ٱلنّص:
..
لَكِنَّكِ امرأةٌ مُثْلَى أصِبْتُ بها
وَكمْ مُصَابٍ بِرَمْيَاتٍ مِنَ ٱلْمُقَلِ!
خِصَالُكَ اخْتزلتْ كلّ ٱلنّساء فلمْ
تتْرُكَ لِوَاحِدَةٍ شيئاً مِنَ ٱلْمُقَلِ.
يُثْني على سجاياها وخِصالها ٱلتي فاقت كل ٱلنًساء؛ فهي ملكة زلزلت عرش قلبه وتمكّنت منه فأصبح هائما في سمَاها وسناها..
..
ولاَتُجادلْ فَتَىً أسْرَى ٱلْهُيامُ بِهِ
مَاضَيَّعَ ٱلْوُدَّ إلاَّ فائِضُ ٱلْجَدل!
إنَّهُ يركبُ بحْرَ قصيدة ٱلنَّثر كما يمتطي بُحُور ٱلشّعر ٱلْعَمُودي..فهذه ٱللاّمية (( قصيدة لامية))؛ تكشِفُ عن تَمَكُّنِ ٱلشَّاعر من أدواته ..فهو ٱلشّاعر ٱلّذي يستنْطقُ ٱلْوُجُودَ ..لكِنَّهُ في ذاتِ ٱلْآنِ يَنْضَحُ عاطِفةً جَيَّاشَةً عندما يتمكَّنُ منهُ ٱلْجَوَى وٱلْكلف يُبْدِعُ نُصُوصاً غَزَليةً رَاقيةً ..إنّهُ ٱلشَّاعر ٱلْمُتيَّمُ ٱلْمُتَصَوِّفُ ..فعندما تقرأ للمبدع " ٱلْمصطفى ملح" يجب عليك أن تتسلَّحَ بمفاتيح خاصة..أن تُقْبِلَ على ٱلنَّص وأنت مُدَجَّجٌ بِكُلِّ آلياتِ ٱلْحَفْرِ.
ٱستنتاج:
---------
إن ٱلشّاعرَ "مصطفى ملح" يُجِيدُ ٱلشّعرَ كما يُجِيدُ ٱلْحَكْيَ وٱلسَّرْدَ ولمساحةِ ٱلتَّبْئِيرِ في نُصُوصِهِ حَيِّزٌ كبيرٌ ..إذْ يتَجَاوَرُ ٱلسّردُ وٱلشِّعر فيكون ٱلْإمتاعُ وَيُصْبِحُ ٱلنَّص متاهة عميقةٍ تحتاجُ إلى حِبالٍ مَتِينَةٍ من أجل تمكين قارئ / مستكشفِ ٱلنّصِّ من ٱلْوصُولِ إلى ٱلْأغوار ٱلْعميقة من أجلِ ٱسْتِنْطاقِ مكنوناتها و ٱلْكَشْفِ عن رؤياويتها..
إنّكَ وأنت تقرأ للشَّاعر " مصطفى ملح" تلفحُك نيران ٱلسّردِ وٱلْقصّة ..هي شعريَّة حِكائية / هو ٱلنَّسقُ ٱلشِّعْري ٱلذي يبحثُ لهُ عن أفقٍ تجريبي شعري مُغايرٍ في ظلِّ نَمْذَجَةِ ٱلنُّصُوصِ ٱلشِّعْرية.
يشهقُ حكمةً ويكتبُ شِعْراً بأنفاسٍ غارقةٍ في ٱلتَّأَمّلِ وٱلْفلسفةِ..مما يجعلني لا أتردَّدُ في نَعْتِهِ بٱلشَّاعر ٱلْفيلَسُوف؛ فٱلْكتابة عنده كما مصباحٍ مسلّط على عتماتِ ٱلْواقعِ وٱلْفكْرِ ليجلُو ٱلْغُبار عن كل فكْرٍ مُتسلِّطٍ مُنَمْذَجٍ مَريضٍ ..يصْبُو برهان ٱلشِّعْرِ إلى ٱلْانعتاق.
فيا قارئ نصوص " ٱلْمصطفى ملح" لا تأتي إلى ٱلنَّصِ فارغاً خاوياً ..كُنْ عميقاً ..توغلْ في ٱلْفِكْرَةِ ..فشرايينُ ٱلنُّصُوصِ ٱلْملحوية** تحتاجُ لمِجَسٍّ يُجِيدُ ٱلْانْصاتَ ..لا تنتمي لغير هذا ٱلْمَنْحَى لسبرِ معاني ٱلنُّصُوص..لأنكَ إن نحوت مسلك ٱلْمُرور ٱلسريع وٱلْقراءة ٱلْعَجْلى لن تحفل بمُناكَ.
عموما، إنَّنا أمام شاعر متفرد ٱلنّسق ٱلشِّعري عصاه تتوكأ على تداخل ٱلْأصوات وٱلنُّصوص وٱلرُّؤى ..ولا يمكن ٱلْبَتّةَ أن تزهِرَ عملية تلقِّي نصوصه دون دِينامية حفر موائمة قادرة على تذوق جُلّ أنماط إبداعه ٱلذي يغترف من متعدد.
ٱلْهوامش :
- ٱلمصطفى ملح، شاعر وقاص وروائي مغربي حاز جائزة المغرب للكتاب صنف ٱلشعر عام 2019م.
وجائزة رونق ٱلْمغرب القصة ٱلْقصيرة دورة 2018 .مع ٱلزّمن /قصص.
له العديد من ٱلْإصدرات :
ديوان : " رماد ٱلشمس ". 2009.
وأعمال أخرى موجهة للطفل ، منشورات ٱلقرويين.
- لا أوبخُ أحدا، ديوان شعر صادر عن دار مقاربات عام 2019 ٱلْحائز على جائزة ٱلْمغرب للكتاب.


Post A Comment: