الباحث الجزائري / محمد بصري يكتب : الانسان الوحش والإنسان البشر و الانسان الكريم؟ هل كان لنبي الله آدم عيه السلام بابا و ماما؟  


الباحث الجزائري / محمد بصري يكتب : الانسان الوحش والإنسان البشر و الانسان الكريم؟ هل كان لنبي الله آدم عيه السلام بابا و ماما؟


في واقع الحال والحقيقة هذه ليست مزحة جديدة بنكهة السخرية أو الاستهزاء  بل هو قول استلطافي للمفكر المصري الاسلامي عبد الصبور شاهين رحمه الله حين كان يمازح بعض الشباب في حصة من  حصص التلفزيون  قائلا  سأخرج كتابا إلى العلن أبين لكم فيه أن أباكم آدم عليه السلام كان له "بابا و ماما".كتاب ( أبي آدم قصة الخليقة بين الأسطورة والحقيقة) كان صادما لثقافة الحسم والثبات والوثوقيات. هو براديغم جديد في اللقاء بين الإيمان والعلم أو ثورة إجتهادية جديدة  تتلاقى وأفق تجديد الخطاب الديني التقليدي الذي يرفض بعض ممثليه التخلي عن مسلماتهم العتيقة..

يتحول البشر إلى وحوش كاسرة جارحة وقاتلة تقتات على ألم بعضها البعض عندما يُدْبرون غير مقبلين  تاركين وراءهم إنسانيتهم. تتكرر كلمة إنسان في القرآن أكثر من خمسين مرة بل وصلت خمسة وستين وكلها تذكره بنبل الخَلق الذي أحاطه به القوي المكين.

الطبع فطري ثابت في شخصية الإنسان يشكل جزءا كبيرا من سجاياه لكن الغريزة 

تتغذى كما يقول إيريك فروم على كمون الطاقة التي يفرزها الطبع بمعنى وجود  تواطؤ طبيعي بيولوجي سلوكي بين الطبع الغريزة أو ما  يدعوه كذلك إطلاق العنان للطاقات الحبيسة. التشابك بين المعطيين الفطريين أفرز حالة قَلِقة سلوكيا .الجحيم كل الجحيم أن يلتقي الطبع السيء بالغريزة المنفلتة الرعناء حينها ستتضرر العلاقات الإنسانية وتنشأ الحروب والشرور.

يقول المعري : وَما آدَمٌ في مَذهَبِ العَقلِ واحِداً

** وَلَكِنَّهُ عِندَ القِياسِ أَوادِمُ


هذا الطرح  الشعري الرشيق  وإن شئتم الجينيالوجي المُستلهم من فلسفة الخلق  للآدمية  الذي يعود في  مرجعيته للمعري في لزومياته."قبل آدم كانت هناك الأوادم "و ما يبرر هذا شرعيا ويؤصله دينيا وتقوويا هو قوله عز وجل "أتجعلُ فيها من يفسد فيها ويسفكُ الدماء”  

الأوادم التي استنتجها المعري في لزومياته وهو صاحب العقل اليقظ الشاك الناقد والمتبرم، لم تكن إلى الفكرة المترتبة عن نظريات التطور في صورتها الحديثة والمعاصرة كون آدم مجرد حلقة بين البشر وقد تكون وفق رؤية تأويلية مترتبة  عن الحديث القدسي الذي يروي أصل الخلق والنشوء الميتافيزيقي العظيم. حين أمر الله عز وجل ملك الموت فأتى الأرض فاستعاذت بالله أن يأخد منها شيئا، فقال ملك الموت :وإني أعوذ بالله أن أعصى له أمرا، فقبض قبضة من زواياها الأربعة من أديمها الأعلى، ومن سبختها ،وطينها،وأحمرها وأسودها و أبيضها، وسهلها وحزنها..البعض يرى في الحديث أسطرة لفكرة النشوء والخلق ولا تخلو من الاسرائيليات التي استعان بها كبار الرواة في مسائل تشددت فيها النصوص  وأوجزت.

الرواية الدينية تُجزم بما لا يدع الشك أو حتى منفذا للمواضعات العلمية للولوج إلى معضلة الخلق بأن النبي آدم عليه السلام هو البداية الحقيقة للإنسان. بعد النهايات التعيسة للبشر.وهي الظاهرة التفسيرية التي يحبذها عبد الصبور شاهين وينكرها زغلول نجار وهما من نفس التيار الديني وينتميان لذات الايدولوجيا الحركية التي 

لا تخلو من رياح الاسلام السياسي . 

يروي الراحل عبد الصبور شاهين رحمه الله وهو الفيلولوجي الوحيد في طبقة العلماء المسلمين المعاصرين وفقيه اللغة و المترجم الذي لا يشق له غبار ، أنه بقي خمسة وعشرين عاما  وهو يتأمل ويبحث يقرأ النظريات الاثنوغرافية ويستنطق النصوص الدينية والقرآنية والأحاديث بما في ذلك الاسرائيليات التي مصدرها أحبار بني إسرائيل  ليهتدي إلى فك الشفرة التي تميز الانسان عن البشر والخلاف المفاهيمي والعلمي بين الحقلين الانساني والبشري.ربما كان الرجل يخشى من إنفجار البالون الحرفي والنصي فوق ناصية  أبحاثه ويتم الإجهاز عليها قبل أن تعطي اجتهاداته  أُكلها وثمارها وهو ما حدث لكتابه "أبي آدم" المذكور سابقا الذي  رفعت ضده أربعة قضايا أمام القضاء المصري ورفضها لعدم كفاية البراهين والأدلة التي تصادر حقه في الاختلاف أو حتى تورطه في المروق عن الملة والدين وفق المادة 98  من قانون العقوبات المصري التي تدخل في نطاق إزراء الأديان  مع لواحقها المعدلة. .كونها مسالة اجتهادية فقط يصف عبد الصبور شاهين اللغوي والفيلولوجي العارف بأسرار اللغة وخفاياها الانتروبولوجية  معارضيه في الطبعة الثاني لكتابه بالكائنات التي انبعثت من قلب البركة الآسنة لتثير الماء الراكض بعد أن علقت المحكمة الاحكام الصادرة بحقه.نقطة النزاع الاجتهادي الخلافي تُختزل في إنكار الفريق الذي يتزعمه زغلول النجار المتمسك بغيبية الخلق

 و خفائه عن البشر وتميز النبي آدم في التكوين الأول عن بقية المخلوقات البشرية والرأي العلمي الانتروبولوجي الذي يرى آدم إستمرارا  لسلسة من التغيرات التي طرأت على البشر حتى ظهور الإنسان العاقل المفكر  homosapiens  فالإنسان جزء من الكل هو نوع من جنس بالمعنى االعقلاني البرهاني الارسطي(أي أن الإنسان هو جزء من جنس البشر).وهنا تظهر معضلة الفقه التقليدي الذي يرفض المنطق الارسطي في كلياته ويقبل بالقياس وهو تناقض يسيء إلى حكامة المنهج الذي يلتزم به بعض الفقهاء .حجية مواقف عبد الصبور شاهين تنبثق من اعتماده على مراجع ومصادر جيولوجية علمية منها ماهو للعالم الجيولوجي زغلول النجار المفتتن بالإعجاز العلمي للقرآن الذي رفض المؤَلَف والدراسات التي اضطلع بها شاهين جملة وتفصيلا واصفا أفكاره بالخاطئة والقاصرة وواصفا صديقه بالأمس وغريمه بأنه جدف وخاض في أرض غير أرضه.في صفحة 33 من " أبي آدم" يستشهد بدراسة ثنائية لزغلول نجار وأحمد داود "صور من حياة ما قبل التاريخ" في إنحسار الزمن الجليدي وظهور موجات جديدة من الكائنات الحية.


هو  تساؤل في الملأ الاعلى للملائكة وهي تحاور الذات الالهية "والتي سبق في علم الله وقدره وغيبه أنه خلق العالم من عدم بعدما كان كنزا مخفيا بنص الحديث "لقد كنت كنزا لا أُعرف، فأحببت أن أُعْرَف، فخلقت خلقا فعرّفتهم بي، فبي عرفوني " وإن كان الحديث المذكور محل خلاف كبير بين الصوفية والفقهاء وهو في الغالب نزاع إيديولوجي حول الماهية المذهبية وليس مثار نقاشنا الآن.وإن كان نص الحديث يتفق ويتجانس مع قوله عز وجل "ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون".

الإنسان  كل كائن من لحم وعظم ودم رغم ادعائية الفلسفات الانتقال بهذا المفهوم إلى سماء المجردات والاستعلاء القيمي كما يقول ميغيل أونامونو :هو ذلك الذي يولد ويعاني ويموت ويأكل ويشرب ويلعب وينام ويفكر ويحب الانسان الذي يمضي ويسمع له .4. 


يقول عز وجل 

" (فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانْ مِمَّ خُلِقَ )الطارق.

هي آية من آيات كثيرة تميز الإنسان بالكرامة والفضل والتفاضل الخلقي بين كائنات كثيرة.وتذكره بقيمه ومثله وجذوره الأولى.

قوله عز وجل وهو يصور الحالة الفريدة للعذراء مريم " فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا"

قوله كذلك {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إنَّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ. فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)


 يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنْسَانْ ضَعِيفًا } [النساء:28

{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا. [الكهف:54

الكلمتان (إنسان /بشر) تسري عليهما ضوابط الصرف  والنحو اللغوي بصورة شاذة  فجمع الانسان أناس والناس والأناس والأناسي قيل تآنست الأرض أي انبتت  والإستئناس من الارتياح والآنسة هي الجارية والأُنس هو النفس البشر  وهي ألفاظ

 لا تثنى  ولا تجمع  يقال هذا بشر وهما بشرا وهم بشر.وقد يبدو الفهم التأويلي أن الله يخاطب البشر بكلمة "بشر"حين يتعلق الأمر بالتكوين البيولوجي والطبيعي وهو ما حصل في اللقاء التاريخي العظيم بين الملك الكريم الرسول ومريم العذراء والحوار الذي دار بينهما وحين يخاطب البشر بمفهوم "الإنسان" فإنه يذكرهم بمصادر ذواتهم وقيمهم وميتافيزيقيتهم.

إن الإنسان من دون عواطف و رغائب سينتهي كونه إنسانا" Un homme sans passion et desire cesserait d’étre un homme »  قول دولباك D’holpach  

البشر هم المخلوقات الأكثر  إنتاجا للمفاهيم حتى تحولوا إلى براديغمات مفهومية  أو مفاهيمية متحركة تمارس العنف وتعبث بالكون وفقا لمطباتها الغرائزية  .النيكروفيليا Necrophilia هي جحيم مفاهيمي بائس و الأكثر   قتامة وسوداوية في عالم الغرائز كونها إندفاع جنسي لحب الجثت أو الإنجذاب الايروسي الطوطمي للموتى وقد فارقت الأرواح أجساد وأضحوا تجمعا للبكتيريا والديدان والروائح الكريهة نتاج تعفن وترهل الخلايا.

البغضاء والقسوة والرذائل كما يقول ايرك فروم ليست مدمرة للآخر إنها مدمرة للفرد الفاعل. هي منتوج بشري معدل إنسانيا حين اخترقته آلهة العلم هكذا هم البشر وهم ينفصلون عن إنسانيتهم.


"الانسان المتمدن الحالي يشكو من التفريغ غير الكافي للدافع العدواني.

يشبه لورانتس رغم اعتراضات اريك فروم  وهو أحد تلامذة فرويد  الغرائز البشرية بكتل نشطة تتوافق بصورة موحدة لمجابهة العدوان الخارجي وهي آلية دفاعية سلوكية موجودة لدى الاوز الرمادي الذي يبدي ضروبا من التكافل والاتحاد المفرط في درأ الأخطار التي تهدد جماعاته.يسميها ظاهرة "النحن" ضد "الآخر المخالف" رغم عدم امتلاكية الحيوانات لجهاز عصبي متقدم يجعله يدرك تماما اناه.

يمكن للبشر أن يتمتعوا بالشعور بالصلاح المطلق حتى عندما يرتكبون الفظاعات.وكما  يقول المثل الاوكراني" عندما يُنشر العَلَم يكون العقل في بوق " .

لا يمكن أن يخوض البشر حروبا أو أن يشنوا اشتباكات وحشية ضد بعضهم  البعض وهم تحت قوة الشعور الانساني.تنتهي الإنسانية المحملة بالقيم والنزعات الأخلاقية حين تنفلت الشرور في صور بالونات غرائزية يتغذى عليها الطبع والعقل الارتكاسي. ما يدعى حماسة الحروب هو الوجه الشيطاني في جوف بني  آدم. تعويد الجندي على ارتكاب القتل المنظم لا يعفيه من آلام الضمير.

البشر الذين سبقوا آدم، وهم  أحد مصادره البيولوجية والتكوينية لا يختلفون عن البشر الذين يعبثون بالأرض وبكينونتها حاليا .الفرق درجة فقط وليس نوعا هو ما أراد ايرك فروم تبليغه  عبر التأثير على العقل العلمي بموضوعية الفكرة القائلة بتدميرية النوع البشري. وهي ذات الاجتهاد الذي اراده الراحل عبد الصبور شاهين بتبرير كرامة الخلق والإنسانية الأدمية في رجوعها إلى فطرتها السليمة وهي تستقي كرامتها من كرامة النبوات ونبوءة آدم عليه السلام

                                          


 محمد بصري كاتب من جنوب  الجزائر                                       

                                                                        انتهى

هوامش

المناظرة الكاملة بين د.زغلول نجار وعبد الصبور شاهين "هل هناك بشر قبل آدم. "يوتيب"ساعة التصفح 10 و 57 بتاريخ 15/06/2022

اريك فروم تشريح التدميرية البشري ترجمة محمود منقذ الهاشمي دارمنشورات وزارة الثقافة سوريا ص 57.







Share To: