ملخص عن (الاستلاب وتحولاته الفكرية في الرسم العربي المعاصر اطروحة دكتوراه مقدمة إلى مجلس كلية الفنون الجميلة / جامعة بابل ) للباحث صادق عمران موسى جاسم ٢٠٢٤ | بقلم أ. عماد الدعمي
عرّف الباحث الاستلاب لغة واصطلاحا بشكل استوفى فيه دلالات الكلمة مستعينا بعدة مصادر ومراجع ومهد له شارحا معناه بعدة وجوه
فالانسان بطبيعة حاله ، يبحث عن شيء يلوذ به ويطلب الحماية منه في العيش والنسل وبالتالي تسليم الفكر إلى خرافات ابتدعها البعض واسموها إله ومن هنا بدأ الاستلاب الفكري .. حتى تحوّل هذا الاستلاب إلى مرحلة التقديس .. سواء في الأشخاص أو الأفكار... فالحاكم إله .
وبهذا تحقق النجاح في أن يصنعوا مصنعا لإنتاج الجهل والتخلف وقد نشأ عن ذلك أن العناية الإلهية هي من تدير البشر بواسطة الأشخاص ،وإلا ماذا تفسر إذا تكلم أحدهم استجاب له الملايين ونفذوا مايريد وهذا هو أشد حالات الاستلاب الفكري ..
ان أدلجة العقول أشد خطرا على البشرية وإلا ماقيمة الإنسان إذا كان عقله مؤدلجا.
وقد نجح الاستعمار في ذلك والواقع العربي خير شاهد على ذلك، ناهيك عن استلاب الحاكم العربي لشعبه .
أن تأثير الاستلاب بانَ واضحا حتى على الفنان حينما يؤثر عليه ويحجب طاقاته وابداعه وكذلك على الشاعر حينما يخضع لمن فرض عليه السلب وبالتالي هو قتل للفكر وللتنور العقلي وللجمال الحقيقي الذي يتوجب ظهوره من دون عوائق ومن دون مُستلب .
لقد بدأ الاستلاب منذ أن قتل قابيل أخاه هابيل بطابع الحسد والغيرة والكره، وما زال للآن بشتى أنواعه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وحتى سلب العواطف أو ما يسمى بالاستلاب العاطفي ولنا في ذلك قصص وحكايات بقيت راسخة في الاذهان ويستشهد بها في الحاضر وحتى في المستقبل للأجيال القادمة .
ظهرت فكرة الاستلاب عند اليونانين بقوة فكان الشاعر اليوناني (ارخيلوخوس) أول من استخدم كلمة طاغية عندما أطلقها على الملك (جيجز )ملك مدينة ليندا .. وقد أشار فلاسفة القرن الرابع قبل الميلاد لا سيما (أفلاطون وأرسطو) إلى التفرقة بين الحاكم العادل الصالح والحاكم الشرير الفاسد المُستلب لحقوق الرعية . وحينما جاءت المسيحية التي مهد قساوستها للاستبداد العقائدي
ودعموا الطغاة من ملوك أوربا وحكامها بدعوى أن الحاكم لا يعصى لانه الولي المنتخب من الله .
فيما رفض الفيلسوف الفرنسي( مونتسيكو) استلاب الأنظمة الاستبدادية لحرية الشعوب.
وقد أكد (هيجل ) بأن الاستلاب بمعنى نقل الحقوق ونقل الملكية والتخلي أي بمعنى ضياع الجوهر الإنساني.
وأكد أن الصراع قائم بين الوعي وقوى الاستلاب الواقعية .. لذلك يعد الوعي هو السلاح الفتاك لشخصية الفرد .
وهناك عدة انواع للاستلاب منها الاستلاب العقلي والفكري والثقافي والاستلاب الأعمى اللاواعي والاستلاب العقلاني المنطقي الواعي .
وقد اعتبر (كانت) بأن الدين هو ما يستنبطه العقل الخالص مستندا إلى معايير ومبادئ العقل ، وإن الدين الذي يُدار من قبل مؤسسات دينية وليس كإيمان روحي خالص هو مصدر الاستلاب لانه يجعل من الإنسان دمية يحرك خيوطها الخوف والرغبة لأن الإيمان ليس رغبة بل هو مطلب للعقل .
فكم من مظلوم سُلب حقه بشتى جوانب الحياة وكم من مُسلوب ذهب أدراج الريح وكم وكم ..
استعرض الباحث عدة لوحات لفنانين كبار بين من خلالها الاستلاب فقد جسد حالة الاستلاب في (لوحة المأساة ) لبيكاسو وهي عبارة عن مشهد أزرق لثلاثة أفراد وهم الأب والأم والطفل وهم حفاة الاقدام وممزقو الملابس يبدو عليهم الحزن الشديد والشعور بالاستلاب والوحدة القاتلة في البرد الشديد ..
ورأى الباحث تزايد شعور الاستلاب لدى فناني الحداثة مع شيوع النظرة الاجتماعية الجديدة التي أصبحت تنظر إلى الفن باعتباره سلعة وهذا يؤدي إلى الاستلاب والانسلاخ عن وظيفة الفن الإنسانية السامية .
ويرى (هربرت ماركوزه ) أن الفنان يشعر بالأنفصال والفجوة بين الواقع والمثالية التي يحلم بها أو يعيشها في داخله وبهذا يصبح الفنان أنموذجا من المثاليين يعيش ويعمل في وضع بعيد جدا عن المثالية وهذا الانفصال بين الواقع والخيال يجعله يشعر بالاستلاب ثم يصبح هذا الشعور دافعا له للسعي من أجل التغيير .
ركز الباحث على أن المتلقي ما بعد الحداثة يعد منتجا جيدا للعمل الفني إلى جانب الفنان لأن الحداثة قدمت انساقا فكرية وجمالية مُستلبة من روح الاستهلاك والتصنيع والإعلام والعدمية والشعور باللاجدوى والفوضى التي تضرب علاقات المجتمع والأسرة وسواها من سياقات التعامل الإنساني.
وقد استشهد بالنحات الأمريكي (جورج سيكال) حينما نحت النماذج البشرية بالحجم الطبيعي التي تظهر في مطعم أو شارع مع أشياء في الحياة اليومية ولكن يسيطر على هؤلاء الشخوص شعور الاستلاب كونهم يعيشون في مجتمعات تهتم بالأشياء المادية ولا يهتمون بمشاعر وعواطف الإنسان.
وذكر أن عمل الفنان (مارتن كريد) الغرفة الفارغة والحائز على جائزة (ترينر) هو عبارة عن قاعة فارغة من أي شيء وضعت فيها إنارة تشتعل وتنطفئ ويمكن للجمهور التجول داخلها دون أن يروا شيئا غير الجدران والسقف والأرضية وقد شرح الفنان عمله بأنه تعبير عن المساحات الداخلية والخارجية وحدودها واندماجاتها مع تأثيرات الضوء والظل في تجربة دقيقة بشكل خاص وشعور الإنسان حين يكون في مكان واسع محاطا بالفراغ من كل جانب فيتركز لديه الإحساس بشيء مفقود ويشعر بأنه مُستلب من واقعه وعالمه الخارجي المعتاد .
وقد تطرق الباحث إلى الرسم العربي المعاصر والرسم العراقي ومدى أهمية البعثات الفنية إلى أوربا، بعد ما ارسلت الحكومة العراقية العديد من الفنانين منهم أكرم شكري إلى لندن وعطا صبري وحافظ الدروبي وجواد سليم إلى لندن وروما وفائق حسن إلى باريس وبعد عودتهم إلى البلاد شهدت البلاد نهضة فنية كبيرة حتى تأسست (جماعة الرواد) عام ١٩٥٠ يتزعمها الفنان فائق حسن( وجماعة بغداد) عام ١٩٥١ للفن الحديث يتزعمها الفنان جواد سليم .. وهذه الجماعات تؤكد على عدم الانجرار نحو المد السياسي والتخلص من قيد الفنان ومحاولة السلطة الوصاية على الفن . وقد فرق الباحث ما بين الاستلاب والاغتراب فهناك من عد الاغتراب بمنزلة الاستلاب ففي المعجم الفلسفي ل ( مصطفى حسيبة ) يرد الاستلاب تعريفا للاغتراب حيث عرفه بأنه حالة انفصال واستلاب وهو إحساس الإنسان بأنه ليس في بيته أو موطنه ومكانه .
بعدها تطرق الباحث إلى الرسم المصري المعاصر وذكر العديد من فنانيهم كالفنان محمد ناجي وراغب عياد ورمسيس يونان .
ثم تطرق إلى الرسم السوري المعاصر وذكر الفنان سعيد تحسين الذي جسد امتهان حرية الشعب العربي من قبل الاستعمار بعدة لوحات كان أشهرها لوحة (المجاعة ) وهي لوحة مفعمة بالعواطف تصور جثث الشهداء الذين أعدمتهم السلطات العثمانية في عربات تجرها الخيول..
ثم تطرق للرسم الفلسطيني المعاصر والتونسي واللبناني والأردني والكويتي والسعودي والقطري والجزائري والسوداني
وقد انتهى الباحث إلى عدة مؤشرات انتجها الإطار النظري أهمها .
١. رأى ( توماس هوبز) ضرورة وجود المساواة بدلا من حالة حرب الجميع ضد الجميع فلا مفر من طلب السلم فالرد إما يحيا وحيدا أو يعيش مع جماعة يتنازل لها عن حرياته مقابل حمايته، فالاستلاب هو بمثابة تنازل أو إسقاط حق .
٢. أكد ( جون لوك ) على قيام حكومة تضمن للشعب سيادته وله الحق في انتقادها أو تغييرها فالحرية أهم حقوق الإنسان وإن استلاب الحرية يعني سلب كل شيء .
٣. يحمل الاستلاب عند (روسو ) صفتي الايجاب والسلب معا، فهو تنازل الإنسان عن حريته لصالح الجماعة مقابل الحرية العامة ويمثل استلابا ايجابيا أما فقدان الحرية وحق الملكية فهو الاستلاب السلبي .
٤. أشار ( هيجل) إلى وجود مكونات يمكنها الانفصال عن الروح ويمكن التنازل عنها مثل العلم ،الفن،المواهب،الإبداع، وعناصر لا تنفصل عن الروح كالشخصية وحرية الإنسان والأخلاق والمعتقد الديني فالتنازل عن هذه العناصر هو استلاب روحي .
٥. يرى ( يونغ ) أن الشخصية تشكل خلال مرحلة الطفولة من خلال تقمص السمات المقبولة اجتماعيا وإن حالة الاستلاب للآخر تؤدي به إلى شخصية سطحية تعيش داخل نموذج أفكار وتصورات الآخرين.
٦. يرى (علي شريعتي) أن العبودية واحدة وسببها هو تزيف ذهن الإنسان واستلاب نباهته الإنسانية والاجتماعية في مراقبة الحاكم ومحاسبته وأن المجتمع المُستلب ينتج جيلا مطابقا لمقاييس وحسابات الاستعمار.
٧. في عصر النهضة عرف الاستلاب باعتباره مرضا يحتاج للراحة النفسية وربما الحب أو الزواج فصورت لوحات عصر النهضة الصبية الكئيبين وهم يتجولون بمفردهم في الحدائق والمتاهات المسيجة أو الغابات وعلى ضفاف الأنهار يرتدون الملابس الممزقة أو غير المرتبة علامة على الاستلاب والخراب الروحي والنفسي.
٨. صار الاستلاب مصدرا لإبداع الفنان ذلك للتسامي بمعاناته فصور الفنان الرومانتيكي (غويا) نفسه محاطا بالبوم والخفافيش وكان الفنان يحلم لأن مشاعر القلق يولدها لديه الاستلاب.
٩. عمل السرياليون على تصوير الشعوب بالاستلاب والاغتراب والعزلة عن الناس والعالم في عوالم غرائبية هي أقرب للحلم والكوابيس المزعجة ومعظم مفرداتهم كانت عبارة عن ذكريات حزينة تعيش في ذاكرة الفنان كنوع من الرفض للواقع المرير .
١٠. اهتم العديد من الفنانين العرب بالجوانب التقنية الأساسية في عملية الرسم والمرتكزة على المعرفة العميقة بأصول فن التصوير إلى ماهو متعلق بالاوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي توضح حقوقا وذاتا إنسانية مُستلبة .
في نهاية المطاف حلل الباحث عدة عينات صورية للعديد من الفنانين منهم الفنان كاظم حيدر من العراق في لوحته (التشريح الحيواني) للانسان ، وكذلك للفنان العراقي مؤيد محسن للوحته (النزهة) ، وللفنان علاء بشير ، عنوان اللوحة (تغلغل الذاكرة) وللفنان المصري عبد الهادي الجزار للوحته (الجوع) والفنان السوري مروان قصاب ولوحته (بلا عنوان) ولكثير من فنانين أخر من الوطن العربي .
أظهر فيها قدرته على الإبداع بالفن واكتشاف مواطن الاستلاب وتوظيفها في الفن .
ثم استنتج عدة نقاط عن الاستلاب وظفها بطريقة أكاديمية رصينة وانتجت عدة اقتراحات نراها غاية الأهمية.
وقعت الاطروحة في ٢٠٥ صفحة واستعان الباحث ب ٢٤١ مصدرا ومرجعا عربيا وأجنبيا ونوقشت
في سنة ٢٠٢٤ بجامعة بابل وحصل الباحث فيها على شهادة الدكتوراه بدرجة جيد جدا... مبارك للدكتور صادق وإلى مزيد من التألق
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه المنتجبين.