(لعبة الحروف) 
قصة قصيرة بقلم الكاتب أ. يحيى أبو نور


زرت طبيبي الخاص هذا الصباح..  لقد عادت نوبة الهذيان تنتابني مرة أخرى... بتُ أقلب صفحات الليل يمنة ويسرة.. فحصني كالعادة.. وناولني روشِتة وهو يبتسم كالعادة ... وضعتها كالعادة بجيبي الأيسر دون أنظر ما فيها..  ثم ذهبت للتو إلى صيدلية الحي.. لكن الممرضة قالت لي وهي تبتسم: "دواؤك أستاذ ليس عندنا.." وبعد حديث مقتضب بيننا علمت ما في الروشتة.. ودون تردد اتجهت نحو أقرب متجر لأقتني حاسوبا وآلة طباعة.. لقد جربت أنواع شتى من الأقراص المهدئة والمنومة لأقاوم هذا المرض اللعين كلما حل فجأة... لكنها لم تٌجدي نفعا.. فنصحني الطبيب بالكتابة.. " أمر جيد.. قلت في نفسي.. عل هذه المرة أجثت هذا الداء من الجذور.." 

      انتظرت مجيء الليل بشغف كبير.. أردت أن أكتب.. لقد كنت أكتب.. ومنذ أن توقفت عن الكتابة بدت على محياي علامات الشيخوخة مبكرة.. كل شيء حولي تحول إلى أسود قاتم.. سأجرب.. لن أخسر شيئا.. فتحت صفحة بيضاء.. فبدأت لوحة المفاتيح تلاعبني.. خرج في البداية حرف الألف ثم الباء ثم... ثم اصطفت الحروف في انتظام على الطاولة.. وألقت التحية كجنود تحت التدريب.. قفزت من مكاني مرتبكا فبادلتها التحية.. تقدمت "الحاء".. لم أفهم المقصود.. تسمرت في مكاني.. تقدمت خطوات نحوي مزمجرة غاضبة.. أردت أن أنهي اللعبة.. لكنني سرعان ما تذكرت.. لقد كنت فيما مضى أكتب لها كلما ضاقت بي ...  كنت تارة أعاتبها ... وتارة أخرى أغازلها وأناجيها كشاعر مرهف الإحساس. 

    " أريد أن أكتب إليكِ.. أريد أن أكتب.. هل يمكنني الكتابة؟ لقد مضى وقت طويل منذ أن كتبت لك أول مرة.. لقد مضى وقت طويل لم أكتب فيه.. 

    الكتابة!! آآآه !!! هذه الأداة التي يمكنها أن تربط بيننا من جديد.. أنا وأنتِ.. أنتِ وأنا.. 

   لا زلت في الهاوية.. لازلت في الحضيض.. لا زلت في هذه المعركة التي لن تنتهي.. نجحتُ.. لا.. لا.. ليس بعد.. لكنني ابتعدت عنك.. تركت الميدان 
وانصرفت لحالي.. ألا يكفي؟ لماذا كنتِ دائما تعتقدين أنني عدو لك؟! لماذا كنت تعاملنني كصديق سيئ في هذه الحرب الأهلية الرهيبة؟  لقد رحلتُ قبل الأوان.. قلتُ وداعا وغادرت تلك الأرض اللعينة.. "أرض السافلين"..  

   سلمت جندي وعتادي أيضاً.. فلماذا تتهمنني دائمًا بأنني عدو لك ؟ لماذا تصرين على أن أبقى هذا المحارب الفاشل إلى الأبد؟ لماذا انتهكت حرمتي والميثاق بيننا؟

   لقد جفت كلماتي.. ودموعي.. لقد أسلمت روحي إليك أيضاً.. لقد دفنت هذا الماضي المظلم بيننا..

   هذه الحياة الكئيبة المليئة بالصراعات : أ إلى الأبد؟؟؟
   هذا البحر من الحب! ها أنتِ تهدين شطآنه بهذا العنف القاتل..
   هذا القلب! كان بالأمس صافيا كسماء زرقاء..  لقد توقف نبضه..
   هذا الماء ليس له طعما! الدم أيضاً في عروقي لا لون له..

لا أريدكِ! أنا لا أريدك أكثر من هذا.. لقد سئمت القرب منك.. أخيرا لم يعد عندي شيء أضيفه... ليس لي ما أقوله بعد اللحظة.. هيا! اذهبي.. اذهبي.. لست أريدك.. لست أكرهك.. ليست لدي رغبة فيك بعد الآن ... لم تعد لي الشجاعة.. ليست لي الجرأة لأواجهك بعد الآن.. لم أعد أثق بك بعد الآن.. اذهبي ... انصرفي ... فأنا ما عدت أهواك أيتها الحياة اللعينة!!

   أدمنت اللعبة وصرت أختلي بنفسي وأتحين الفرص لأفتح حاسوبي.. أدوس على أزرار  اللوحة.. فتخرج الحروف من مخبئها للتحية.. ثم كعارضة أزياء هذا المساء اصطفت حولي وصارت تكشف عن مكامن جمالها وحسنها علني انجذب واستميل.. وفي كل مرة يتقدم إلى الأمام حرف في حين تعود البقية إلى الخلف.. صارت اللعبة مسلية.. لكنها محفوفة بالمخاطر.. كنت أخشى أن أخطأ الاختيار فيقع ما ليس في الحسبان.. تقدمت مرة أخرى "الحاء".. ماذا؟ غير معقول؟! ثم تمتمت بصوت خافت: " حياه" .. فأجابت "الحاء" : أجل .. أجل.. أتريدينني أكتب مرة ثانية عن الحياة؟ ماذا عساني أن أقول عن هذه الحياة أيتها الحمقاء؟ فحياتي مملة ولا تسلي أحدا ولاشيء ذو قيمة يحتاج أن يذكر بالمرة.. تقدمت "الراء" بخطى متثاقلة وكأنها تريد أن تخرجني من هذا المأزق الذي وقعت فيه.. ثم "الباء"... ثم تقدمت الحروف الثلاث بخطوات ثقيلة منتظمة حتى شعرت باهتزازات من حولي.. تذكرت وقع أقدام الجنود في الحرب الدائرة هنا وهناك ببلادنا.. فعلمت أن الحروف قد أعلنت عن الحرب.. يا لغبائي!!! كيف يغفل محارب فاشل مثلي عن هذا ؟! فصرت أكتب وأكتب عن هذه الحرب التي ملأت حياتنا حتى أضحينا مجرد أشلاء فوق هذه الأرض اللعينة..

      في إحدى الليالي ، دست على حرف "الحاء" لكنني انتبهت إلى أنه غير مشغل.. عدت لأجرب لوحة المفاتيح من جديد.. ثم لعدة مرات.. لكن لم أفلح.. غالبني النوم فهممت إلى سريري.. بعد لحظات سمعت صوت خشخشة بالقرب من مكتبي.. اعتقدت في البداية أن ذبابة تخرش زجاج النافذة.. وفي بضع ثوان أصبح الصوت عاليا لا يطاق.. فقمت مسرعا لأنظر ما الأمر.. أشعلت نور المصباح ودنوت من الصوت الذي كان ينبعث من الحاسوب.. فتحته فإذا بي أمام مشهد غريب.. كانت الحروف حزينة تشيع في موكب مهيب جنازة الغريب...

     جلست ارتشف قهوة الصباح وعيني لا تفارقان صفحات كتاب كنت قد اقتنيه من المعرض الدولي.. كان عالم "زبد الأيام" مثيرا للدهشة.. كنت أعيد قراءة المشهد مرات عديدة في محاولة فاشلة، لكنها مسلية، لفك الرموز والإيحاءات.. لقد فر الكاتب من عالم مليء بالفوضى والحروب وخلق عالما وقال له كن.. فكان.. باغتني أحدهم وهو يلقي التحية.. جلس إلى جواري.. أخذنا الكلام بعيدا.. لم أتمالك نفسي.. فبحت له بسر "لعبة الحروف".. ضحك كثيرا واتهمني بالجنون.. نصحني بأن أعاود زيارة طبيبي الخاص.. " لقد أتت الوصفة بالمعكوس.." قال لي ساخرا.. سخرت منه بدوري.. وودعته بعد أن دفعت حساب قهوتي عكس المرات السابقة.. بعد أيام قليلة انتشر خبر "لعبة الحروف" بين الأصدقاء كالنار في الهشيم.. ثم بعدها إلى الحاكم.. ثم لأقتاد بعدها إلى السجن.. وتهمتي مخالفة النظام العام للحروف الأبجدية.. 

Share To: