رواية (غريب النهر) لجمال ناجي.. 
قراءة نقدية بقلم الكاتب الأسير كميل أبو حنيش
من سجن ريمون الصحراوي


انطلق الروائي الفلسطيني المرحوم #جمال #ناجي في بناء نصه الروائي (غريب النهر ) في أحد مشاهد اللجوء والشتات الفلسطيني، حيث وضع القارئ العربي أمام رواية مدهشة مفتوحة على أزمنة فلسطينية متنوعة زمن الأتراك في فلسطين وزمن الانتداب زمن الثورة والمقاومة زمن النكبة واللجوء، وزمن الثورة الفلسطينية الحديثة وزمن التسوية، ولم يغلق الباب أمام الزمن الآتي زمن العودة والتحرير فأبطال هذه الرواية هم أشخاص واقعيين وليسو مجرد أبطال في رواية أدبية وحسب، أما ما حملته الرواية من دلالات ورسائل واضحة : الإرادة الفلسطينية المتحدية والمتشبثة بحقها في الوجود والعودة إلى أرض الوطن.
أن رواية غريب النهر تروي حكاية أسرة فلسطينية لاجئة وبطلها الرئيسي " عمي اسمعين" الذي قهر اللجوء وقاوم الغربة بإعادة بناء الوطن ولو في الشتات، فاشترى أرضاً وزرعها بالحمضيات وأسس بيارته الجديدة كي تظل تذكره ببيارته الأصلية في بلدة العباسية واختار الشونة الجنوبية في غور الأردن على الضفة الشرقية لنهر الأردن، حيث شكل النهر حداً فاصلاً بين مكانين وزمانين مختلفين: الوطن واللجوء وكان النهر بمثابة الزمن الجاري والشاهد على كل شيء ومن هذا المكان سيبدأ "عمي اسمعين " ببناء الأسرة والاعتناء ببيارته ، بينما سيظل يرقب الوطن متهيئاً لإمكانية العودة إليه في أية لحظة. 
ويفتتح جمال ناجي روايته بقدوم زائر غريب لبيارة إسماعيل والعبارة التي قذفها على مسمعه العواف يا (عمي اسماعين) وهذه العبارة أعادت العم إسماعين إلى ذكريات قديمة . فهي عبارة من اللهجة الدارجة في القرية الفلسطينية ، وسيكشف هذا الغريب بالتدريج عن هويته حيث بدا وكأنه يعرف الكثير عن ماضي العم إسماعين والعائلة التي ينتمي اليها ، وشكل هذا الزائر لغزاً احتاج إلى حل ، ليتبين أن اسمه شوكت وهو ابن مصطفى شقيق إسماعيل الذي اختفت آثاره في الحرب العالمية الأولى ، وأشيع انه لقي حتفه بعد قصف الانجليز لرتل عسكري تركي أثناء الحرب .
وتعود الرواية إلى بلدة العباسية وعائلة أبو حله الكبيرة والمتشعبة ،والحاج عبد الجبار أبو حلة صاحب  البيارات  والأراضي في البلدة وهو والد مصطفى الذي فقدت آثاره وولده إسماعيل الأخ غير الشقيق لمصطفى.
بعد سبعة أعوام من اختفاء شقيقه ليكبر ويتولى إدارة شؤون الأسرة والبيارات بعد وفاة والده عبد الجبار في أحد سجون الانتداب لتجد هذه العشيرة نفسها مشتتة ولاجئة بعد نكبة العام 48.
نزح إسماعيل عن قريته العباسية عام 48 برفقة شقيقه حمدان وأمه عائشة وزوجته فخرية وابنها الرضيع شعبان وحطت رحالهم في بلدة الشونة الجنوبية على الضفة الشرقية لنهر الأردن فيما بقية الأهل والأقارب من آل حلة فتوزعوا على مخيمات اللجوء في الضفة الغربية والأردن وسوريا ولبنان .
و"عمي اسمعين" هو اسم دأب الجميع على مناداته به منذ صباه تيمناً بجده إسماعيل والكل يناديه ب عمي اسمعين الزوجة الأبناء والأحفاد والأقارب والمعارف ولفظ اسمعين بالنون وليست اللام لان أبو حله وأقاربهم يلفظون الام نوناً.
وربما لم يتنبه الكاتب الى أن هذه اللفظة شائعة في عموم فلسطين وربما بلاد الشام وهذه اللفظة تعود إلى الحقبة الكنعانية القديمة بإبدال اللام بالنون وتأتي أحياناً بصورة الكسر (إسماعيل اسماعين  بيت إيل بيت اين بتين وأحياناً تأتي بصيغة والواو والنون مثل شمعون سمعون بيت أون بيتونيا أو رام إيل رام الله رامين رامون وغيرها الكثير) . إذاً فهذه اللفظة لها جذورها ولا تزال شائعة في العديد من القرى والبلدات الفلسطينية. 
وعمي اسماعين لم تكسره النكبة وقرر أن يواجه واقع اللجوء والشتات فبدأ من الصفر واشترى ستين دونماً من الأرض البور ليؤسس عليها مزرعته على بعد 700 متر إلى الشرق من النهر وأطلق عليها البيارة ليظل يتذكر بيارته التي أرغم على النزوح عنها في العباسية .
لقد ابتاع هذه الدونمات بعد أن تنازل عن بطاقة الإعاشة الخاصة باسرته التي صرفتها له وكالة الغوث لصاحب الأرض ،ثم باع ذهب ومصاغ زوجته وأمه ليبني بيتا في البيارة وقد دأب على القول أن العباسية لن تطير ولن تختفي وما بيارة الغور التي يؤسسها إلا ملكية جديدة تضاف إلى ملكياته في العباسية).
إذاً الشونة الجنوبية ليست بديلاً عن العباسية وبيارته الجديدة لن تغنيه عن بيارته الأصلية في العباسية والغربة والشتات ليست قدراً (ظل متأكداً انه سيرجع إلى العباسية يوماً ما) وبالتالي فإنه لن يقبل الشتات إلا مرغماً وبشكل مؤقت وقد دأب على القول أمام الجميع ( ولدت في قرية العباسية القريبة من يافا بسبعة أعوام من انتهاء الحرب العالمية الأولى)  وهذه البطاقة التعريفية الموجزة تختصر الهوية ببعدها الزماني والمكاني وتنطوي على التشبث بهذه الهوية وحق الفلسطيني بالعودة إلى أرضه . 
وستغدو هذه البيارة المكان الذي تدور فيه معظم أحداث الرواية، تلك البيارة التي زرعها بأشتال الحمضيات ستكبر لتصبح أشجار كبيرة وسيسيجها بأشجار السرو أما شقيقه حمدان ذو الطبع الكتوم الذي كان يساعد شقيقه عمي اسماعين في أعمال الزراعة سيزرع شجرة الكينا الوحيدة في البيارة وستتحول إلى أهم معلم في لالبيارة وبعد التحاق حمدان في الثورة واستشهاده في معركة الكرامة ستصبح الشجرة مقدسة بالنسبة للعائلة أنها زرعت بيدي الشهيد حمدان. 
وسينجب عمي اسماعين من زوجته فخرية ثلاث ذكور (شعبان، ورزاق وجهاد) وسيلتحق بعضهم بالثورة (جهاد) فيما شعبان سيتزوج ويقيم في عمان ، أما رزاق سيبقى عازباً مفضلا حياة السياحة والتجوال في العالم، وهذا المشهد يلخص مشهداً من حياة الإنسان الفلسطيني في بلدان اللجوء والشتات. أما عمي اسماعين فسيتزوج من نجود أرملة (وحيد الخش) ابن شقيقته وسينجب منها ابنته خلود التي ستغدو من أهم شخصيات الرواية وهذا الزواج جاء رغماً عن زوجته فخرية.
وستمر حياة "عمي اسماعين" برتابة ، ملتصقا ببيارته قريباً من الوطن . وسيستقر ابنه البكر شعبان في عمان ، أما جهاد فقد عاد إلى أرض الوطن بعد إقامة السلطة الوطنية الفلسطينية وعمل موظفاً في أحد وزاراتها . أما الشقيق الثالث رزاق فيبقى مسافراً من بلد إلى آخر ومزاولاً لأعمال غامضة سيتضح فيما بعد أنها تتصل بأنشطة الثورة الفلسطينية وإدارة بعض مشاريعها الاقتصادية في الخارج . وأثناء إحدى سفراته العديدة سيلتقي مصادفة على الحدود البلغارية التركية بضابط في شرطة الجمارك ، ليكتشف فيما بعد أن هذا الضابط (يلماز) هو ابن عمة مصطفى ، وسيلتقي فيما بعد بابن عمه الآخر شوكت ، ذلك الغريب  الذي زار البيارة وفاجأ عمه بالعبارة ( العواف يا عمي  اسماعين).
ذهل العم إسماعيل وهو يكتشف هذه الحقيقة وأن شقيقه الأكبر مصطفى أبو حلة لم يمت وانه عاش وواصل حياته وتزوج وأنجب أبناء، وتكشف الرواية عن المرحلة التي عاشها مصطفى في أرض الوطن  وتجنده الإلزامي في الجيش التركي، وعندما قصف الانجليز رتلاً عسكرياً بالقرب من سكة حديد الحجاز قرب مدينة المفرق بالأردن وأشيع انه لقي حتفه . في الواقع نجا مصطفى من هذه الحادثة وحطت رحاله برفقة الضابط المسؤول عنه (طلعت باشا) في مدينة إسطنبول ، ليتزوج من (نوسين) أخت طلعت وأنجب منها ابنيه التوأم شوكت ويلماز.
وعندما زار شوكت عمه إسماعيل في البيارة اطلعه على خريطة لدفينة تحوي كنزاً، هذه الخريطة سلمه إياها خاله طلعت قبل وفاته، واستطاع أن يقنع عمه إسماعيل وأبناءه بضرورة  البحث عن الكنز ، بالفعل وجدوا الدفينة بالقرب من المكان الذي جرى قرب قصف الرتل العسكري التركي في نهاية الحرب العالمية الأولى، وعثروا داخل هذه الدفينة على بعض التحف الأثرية غير أنهم عثروا في أسفل الدفينة على خريطة لدفينة أخرى بالقرب من أريحا . وسيقوموا بمغامرة البحث عن هذه الدفينة ، وسيعثروا على بعض التحف والقطع الذهبية أكثر قيمة من الدفينة الأولى ، ومثل المرة الأولى عثروا على خريطة جديدة لدفينة أخرى وهذه المرة في العباسية مسقط رأسهم جميعاً . لكن كيف سيكون بمقدورهم الوصول إلى العباسية الواقعة تحت سيطرة إسرائيل.
ويصمم شوكت على البحث عن الدفينة الثالثة، بصفته حاملاً لجواز سفر تركي، سيكون بمقدوره الوصول إلى المكان وسيرافقه في هذه الرحلة أحد الشباب العرب من الداخل المحتل . وصعق شوكت حين اكتشف ان العباسية قد جرى مسحها من الوجود (فأحس بإنسحاب تدريجي لصورة المكان العتيق كما رسمتها أحاديث والده في ذاكرته لتحل في محلها صورة جديدة لا تنتمي للزمان الذي ترعرع في ذاكرته ). كانت صدمة بالنسبة إليه (تمنى لو انه لم يذهب إلى ذلك المكان . لظلت العباسية في ذاكرته مثلما حدثه أبوه عنها).
ويعود برفقة ابن عمه رزاق إلى البيارة ، وسيجري اتصالا هاتفيا في تركيا ويبلغوه بوفاة والده مصطفى . وسيصدم العم إسماعيل حين اكتشف ان شقيقه مصطفى لا يزال على قيد الحياة وعاتبهم بقوة لأنهم لم يبلغوه . وتكشف الرواية عن أن مصطفى حاول البحث عن أقاربه في لبنان ألا انه لم يوفق . وحين كبر وغدا عاجزا طلب من ابنه شوكت وابن شقيقه رزاق أن يكتموا سر بقائه حيا لأنه (لم يكن يريد أن يراه أحداً من أهله مقعداً عاجزاً بعد هذا الغياب ) .
أما الإثارة في قصة مصطفى فتلك الوصية التي تركها . والتي تطالب بأن يدفن في العباسية واذا تعذر ذلك ففي مكان آخر من فلسطين .
فشلت كافة المحاولات التي بذلتها السلطة والحكومة التركية مع إسرائيل لتنفيذ الوصية والسماح بدفنه في العباسية كما لم تسمح إسرائيل بدفنه في المناطق التي تسيطر عليها السلطة وكان رد سلطات الاحتلال ( أن الامر ليس مجرد دفن ميت تركي أو غير تركي ، بل هو موضوع يتعلق بدولة إسرائيل وسيادتها على ما فوق الأرض وما تحتها ). 
وأوردت السلطات المحتلة ذريعة أخرى لعدم قبولها بدفنه في فلسطين لان ذلك يعتبر (تجديد للمطالب الفلسطينية بحق العودة وان ذلك سيعني اعترافا بوجود حق للميت ولورثته وكل أهالي قريته في تلك الأراضي ) كما أن قبول دفنه في مناطق السلطة يعني اعترافا بحق مواطن في البقاء داخل أراضي السلطة . وتساءلت هذه السلطات (ماذا لو أوصى كل الفلسطينيين في العالم بأن يدفنوا في إسرائيل أو في أراضي السلطة الفلسطينية ).
إذا هذا هو بيت القصيد. فدولة الاحتلال لن تسمح لأي فلسطيني بالعودة حتى لو كان ميتا يدفن بتراب وطنه. والرواية تدع العرب والفلسطينيين من جهة وبين إسرائيل من جهة أخرى ومن المفارقات انه في الوقت الذي ترفض فيه إسرائيل بعودة أي فلسطيني حتى لو كان جثة. فإنه وفي ظل جائحة الكورونا جرى شحن مئات الجثث ليهود لقوا حتفهم في هذا الوباء وجلبها من شتى أصقاع العالم ليجري دفنهم في فلسطين . مع أن معظمهم يحملون." اليهودية الإسرائيلية " وإنما مجرد يهود ينتمون للجاليات اليهودية في العالم.
وفي العودة للرواية فقد احتارت العائلة في مكان دفن جثمان مصطفى الذي جرى جلبه من تركيا إلى الأردن. فكيف يمكن تنفيذ مثل هذه الوصية في ظل التفتت الإسرائيلي . 
فاقترحت عليهم خلود ، ابنة العم اسماعيل الوحيدة حلاً للمشكلة بدفنه على الحافة الغربية للنهر ( احملو جثمان عمي مصطفى وادفنوه عند الحافة الغربية للنهر ) وقبلت العائلة اقتراح خلود بحماسة نقلو الجثمان خلسة في الليل وقطعوا النهر، ودفنوا الجثمان على الضفة الغربية للنهر وبذلك جرى تنفيذ الوصية .
ولم يكتفي شوكت بتنفيذ هذه الوصية . بل رسم خريطة لقبر أبيه . وبهذا برهن شوكت انه لم يكن مجرد رجل يهتم لخرائط أماكن لدفائن الكنوز، وإنما هو رجل يكمل حلم أبيه في العودة فنجدة يهتف ( من يدري. قد يبحث الأحفاد عن قبر واحد من أجدادهم )
وبهذا تغدو خارطة الجثمان أهم من خارطة الكنوز . وهو ما يعكس ما أرادت أن تبرزه الرواية حول أهمية الإنسان الفلسطيني إلى جانب الأرض . 
وخلود التي تمثل الجيل الجديد. رسمت نسخة مطابقة لخارطة القبر . وانتهت الرواية عندما التفت العم إسماعيل إلى خلود (وهي تجلد خارطة مكان دفن جثمان عمها مصطفى، وخارطة الدفينه الأخيرة في أراضي العباسية ).
ان عبور النهر ودفن الجثمان على حافته الغربية . يمثل عبوراً لزمن الوطن ولو بقبر لفلسطيني فقدت آثاره منذ سنوات طويلة. ورسالة الرواية واضحة : قداسة حق العودة، وقداسة الإنسان الفلسطيني إلى جانب قداسة أرض الوطن.
أما غريب النهر، فهو يمثل حالتين : الأولى العم إسماعيل الذي زرع بيارته على الحافة الشرقية للنهر، بينما بقيت عيناه ترفبان الوطن على حلم الرجوع إليه في يوم ما .ولم يقبل أن تكون أرظ غربته هي الوطن البديل أما الثانية فيمثلها مصطفى الذي لم تنسيه سنوات الغربة الطويلة أرظ الوطن، وبقي هو الحاظر الغائب في حياة العائلة. أما جثمانه المدفون على حافة النهر الغربية فسيظل ينتظر الى أن يجري نقل رفاته في يوم ما ل ليدفن في تراب العباسية .
اننا امام بداية مميزة، تحمل أكثر من رسالة. وأهمها على الإطلاق، رسالة العودة، ورسالة الإنسان الفلسطيني وهويته وتاريخه الطويل على هذه الأرض. 




Share To: