(لعبة)
قصة قصيرة بقلم الكاتبة م. هالة صلاح
ترك العالم المجنون جهازه بالمعمل دون أن يُحكم إغلاقه، فتسرب الأطفال ولعبوا بالجهاز ليطلق شعاعاً شفافاً، في ركضهم خارج الغرفة مذعورين مما اقترفته ايديهم، ألتقطهم الشعاع فقلص احجامهم ليتسع العالم حولهم فجأة وتتغير معالمه، كريم الذي كان يشاهد الفيلم عبر شاشة تلفازه، وجد نفسه بصحبتهم، تقلص حجمه مثلهم. كل شيء صار عجيباً، ضخماً ومرعباً.
الأطفال يركضون سريعاً جداً مبتعدين عن أنياب نملة صارت في حجم قط, هو يشعر بالثقل يجر أقدامه جراً, يلعن كراهيته للتمارين الرياضية, و يحسد الأطفال علي أجسادهم الخفيفة النشطة, الادرنالين لا يزيده إلا ثقلاً علي ثقل, غدا يجر قدمه جراً, الأنياب المدببة تقترب منه, يسقط أسفل جسد النملة الرطب, ينزلق من فمها سائل لزج يغمر وجهه و يتسرب عبر أنفه و فمه فيسعل سعالاً عنيفاً يشعر كأنه يغرق, يفرك عينه التي اغرقها السائل و حين تعاوده الرؤية يري أنيابها الحادة كسكين ضخم تكاد تنغرز بجسده, لا يجد صوتاً ليصرخ به, يصحو منهكاً.
2
استلقي "أسود" على الطوار قرب صندوق القمامة، يلعق رسغه في ملل، له جسد بلون الليل في ذاك الشارع الضيق المختنق بالبنايات العالية والعاري من المصابيح. ضخم، يراقب بنظرة فاترة صديقيه الذين افترشوا الاسفلت البارد في خمول بعيون نصف مغمضة، ليلة رتيبة لم تمر خلالها قطة أو حتي عرسة يطاردونها تمريراً للوقت.
شعر بالغيظ من رفقاؤه المستسلمين للرقاد، رفع رأسه ثم نصف جسده الأمامي و دفع بساعده ينغز جسد "أبيض" المستلقي جواره، إلا أن الآخر لم يُبد حراكاً، فمرر أظافره في حركة سريعة عبر خاصرته حتي ردفه دون أن يتلقى ردة فعل سوي تثاؤب ممتد انتقلت عدواه الي صديقهم "بنيّ" فتثائب نافخاً صدره و ماداً ساعديه اسفل رأسه ثم عادا إلي استرخاء ارسل الي قلب "أسود" حنقاً فاستلق نافخاً من خطمه في غيظ.
مرت نملة في الدائرة المصنوعة من ساعديه و رأسه، فرأي الهواء الساخن الصادر عن خطمه يدفعها, أحب اللعبة فنفخ بجسدها ريحاً ثم أوقف انزلاقاها بطرف أظفره المدبب, بدت دائخة تحاول الفرار بينما هو ينفخ بجسدها و يوقفها و يرسم لها متاهات تدور فيها.
2
خرج خائفاً يترقب.
ليس اليوم استثنائياً، فتلك رحلة يوميه عليه أن يقطعها كلما أراد ترك المنزل ليلاً.
"عليناً جميعاً أن نتآزر، فلنتحمل الصعاب سوياً من أجل وطن أقوي". رنت عبارة الرئيس الخالدة في رأسه مصحوبة بتصفيق حاد وعبرات صادقة. يذكرها كريم يومياً عند مروره عبر البوابة الحديدية الصدئة للمبني إلى ظلام الشارع.
اللصوص أيضاً عرفوا مع الشعب مصلحة الوطن في توفير الكهرباء، لذا يمارسون مواهبهم الاستثنائية في الرماية عبر تهشيم المصابيح الكهربائية بالظلط. الحيّ من جهته لا يقصر، فهو يعيد تغيير المصابيح كل عشر سنوات تحت إلحاح المواطنين، يتعمدون التأخير بعض الشيء، استجابة لأزمات الوطن، المواطن الصالح سيتفهم.
يقطع الشارع كأنه يعبر كابوس متكرر حيث يكتشف أنه فقد عيونه. في انزلاقه عبر ذلك الشارع، من الظلام إلي النور ومن الهدوء البالغ إلى الصخب، يكون قد عاش خمسة عشر دقيقة من حياة المكفوفين.
حتى أنه فكر في اصطحاب عصا جده، لولا أنها ستجعل منه طرفه لأصدقائه يلكونها في جلوسهم اليوميّ على القهوة.
كشاف هاتفه الهزيل يزيد الأمر سوءاً، فهو يرسم بالشارع ظلالاً ويرسل فيها الحياة.
في إحدى المرات، وعند منتصف الطريق، رأي تمساح يزحف نحوه، كان ظله جلياً جداً على سور ضخم لبناية عند ناصية الطريق. تذكر ما قرأه على السوشيال ميديا من عثور بعض المواطنين على تماسيح صغيرة بالقرب من بيوتهم.
قبل أن يبد أي حراك، وفي لحظات تجمد عقله عن اتخاذ قرار سليم كان الظل يقترب كالبرق، أقل من ثانية وشيء يلامس قدمه مروراً ويختفي، قفز كأن قنديل لسعه, كاد يسقط ليدرك أنها كانت عرسة مارة وذاك التمساح كان ظلها.
الليلة بدا كل شيء هادئ، يصفر لحن رائق ليمر معه عبر ظلمة الشارع و يحمل كتاب رسائل بين بول اوستر و كوتزي, بينما يرسل كشاف هاتفه علي الطريق أمامه و يراقب ظله المتضخم المنتهي برأس متناثر حولها شعره, ليبد ظله كأنه غول اسطوريّ, الفكرة لطيفة عليهم جميعاً _أشباح الشارع_ أن يخشونه لا أن يخشاهم.
الغول يخطو واثقاً، يدفع شعره المنساب علي وجهه إلي أعلي رأسه, يمتلك الشارع ويفرض عليه حكمه، يبتسم فرحاً من ثقته ويرسل حلم الليلة الماضية إلي قاع رأسه.
تلتقط اذنه لهاث خافت، لهاث مألوف. يقفز الحلم عند مقدمة رأسه وكأنه لم يكن أبداً بالقاع!
الأنياب الحادة، ثقل جسده..
يراهم بوضوح وليس ظلال.
حقيقة جلية، ثلاث كلاب وقد وقف أحدهم نافشاً جسده الأسود الضخم، متأهباً للهجوم!
يرتد خطوات قليلة، يتعرقل ويكاد يسقط لكنه يتوازن،
الكلاب الأخرى تتأهب.
زبد أبيض ينساب عبر خطومها، كلاب سعرانه بالتأكيد.
لا يركض، ليس هو من يركض إن جسده ينطلق دون إرادة منه.
يركض كما لم يركض من قبل،
ليس بجسده ثقل...
تندفع أقدامه علي الأسفلت بفعل ضربات قلبه.
الكلاب لا تتراجع، يشعر بها تكاد تنقض عليه فتزيد سرعته كالريح.
يخترق ظلام الشارع دون تردد وقد دس هاتفه بجيب سرواله، بينما سقط كتابه منه دون أن يعيره اهتماماً.
الليل أمامه ليس ساكناً! ليس هذا بليل إنه إحدى الكلاب تخطاه، يدور ليركض بالاتجاه الآخر فيجد الكلبين الآخرين خلفه، يدورون حوله، يجعلونه عالقاً بينهم، يشكل ثلاثتهم حوله متاهة، يبذل جهاداً مضاعفاً للفرار
يخرج من متاهتهم بصعوبة بالغه ويتابع الركض، يري بأفق الليل ثلاث نجوم وامضه تورثه أملاً وتدفع بوهن إلى جسده.
يشعر أن قلبه يكاد يقف، وأن جسده ثقيل, ثقيل جداً. يثابر، فالنجوم الوامضة محطة تقترب.
الكلاب لاتزال خلفه.
بلغ الرجال الثلاثة الذين اضاءوا كشافات هاتفهم فاستلقوه, دفع أحدهم بقدمه نحو الكلاب التي لم تبلغهم بعد قائلاً
_ هشششششششش
تراجعت الكلاب الثلاثة في حزن بالغ, فقد انتهت اللعبة.
تمت
Post A Comment: