(الحكم عن جهل) 
بقلم الكاتب و المفكر أ. رامي محمد 



سألت مرة الفيلسوف الفرنسي Frédéric Lenoir عالم الاجتماع الشهير والأستاذ في جامعة السربون، سؤالًا بسيطًا حول الفارق الاجتماعي بين منطقة الالزاس في الشرق الفرنسي وبين باريس، ورغم أن الرجل فرنسي الأصل واللغة، فضلا عن كون تخصصه بالأساس علم اجتماع، كانت اجابته بالنسبة لي درسًا عظيمًا. حيث قال -لا أستطيع أن أعطيك إجابة دقيقة، لأني لا أملك قراءة وتجربة كافية حول منطقة -الألزاس-.

على صعيد آخر، في الصباح قرأت منشورًا بالصدفة، لفتاة يتابعها عشرات الآلاف، تزور عاصمة اوروبية لأول مرة، وإذا بها تُعطي انطباعات صدمتني حرفيًا، حول المكان ومن يعيش فيه. عبارات مثل هذه المدينة ظاهرة سينيمائية تكتسب شهرتها من الوهم، ليس فيها ما يستحق، خدمة المطاعم سيئة، الشعب متكبر عنصري.. الخ الخ. وكلها أحكام بالفعل خطيرة، تعبر عن العقلية الاختزالية، والتي هي مع الاسف آفة الكثير في مجتمعنا العربي..

فلا أتخيل كيف لشخص أن يزور مدينة ليوم أو يومين، لا يتحدث لغة أهلها، ولم يمر فيها بتجربة ومعايشة كافية، أن يلقي أحكامًا بهذه الصورة الفجة، على مرأى ومسمع من آلاف البشر، أو أن يقول لي صديق آخر في إحدى النقاشات، لا اعتقد أن أحدًا ضبط هذه الدولة مثلي!

 أتعجب أيضًا في بعض المجالس، من تلك التعميمات الجريئة والأحكام المسبقة على شعوب كاملة وحالة الانسياق وراء السهولة وتصنيف البشر بجميع اختلافاتهم في الخانة نفسها، ننسب لبعض الشعوب جرائم وأفعالًا جماعية وآراء مشتركة مثل (المصريون جهالاً- الخليجيون متكبرون- البريطانيون عاثوا فسادًا- السود أضرموا النيران- الفرنسيون عنصريون- المغاربة ماكرون- الى آخره!  

والحقيقة أن السمة العامة لمن يتحدث بتلك الطريقة، هي الجهل وقصر النظر وعدم الإلمام الحقيقي بالطريقة التي تتشكل بها هوية الفرد والمجتمعات.

على مستوى شخصي مثلا؛ يسألني الكثير من الأصدقاء بشكل متكرر سُؤالًا مربكًا وهو : إلى أي مكان تنتمي؟ هل أنت مصريٌ بحكم الأصل والنشأة، أم فرنسيٌ بحكم العيش واللغة، فتكون إجابتي -هذا وذاك- ليس حرصًا على التفلسف، بل لأني سأكون كاذبًا إن قلت غير ذلك. 

فما يحدد كياني أنني أقف على مفترقٍ بين بلدين ولغتين ومجموعة من العادات والتقاليد الثقافية. وهذا ما يحدد هويتي. وبالتالي لن أكون أكثر أصالة حين استأصل جزءا من كياني.!

أعني أن داخل كل إنسانٍ فينا، تلتقي انتماءات متعددة تتصارع فيما بينها، وهوية كل شخص هي التي تعني أنه لا يشبه أي شخص آخر، لأنه لا يوجد كائنان متطابقان، وحتى لو توصل العلماء في المستقبل لفكرة استنساخ البشر، فهذه النسخ البشرية لن تتطابق إلا ساعة ولادتها. لأنها ستختلف وتتباين حالما تخطو خطواتها الأولى في معترك الحياة!

يعني أن هوية البشر والمجتمعات بحد ذاتها ليست شيئًا ثابتًا، فالهوية لا تتحدد؛ بل تتكون من تيارات وحركات لا من عناصر ثابتة، وتتغير بمرور الوقت لتحدث في سلوك الفرد والمجتمع تغييرات عميقة. كما يقول درويش -إنَّ الهوية بنتُ الولادة لكنها في النهاية إبداعُ صاحبها, لا وراثةُ ماض!

إن صديقي الذي له جدة تركية لزوج ماروني مصري، وجد آخر مات قبل ولادته ماسونيا، وأسرة تنحدر من جزيرة العرب واستقرت في جنوب لبنان، ثم انتشرت في الأرض عبر الهجرات المتلاحقة. من لبنان إلى البرازيل ومن كوبا لكندا، كيف يمكن أن أضعه في جملة أحكامي العامة؟

إن صديقي المسيحي المصري المتحدث بالعربية والتي شكلت أحد التناقضات الأساسية في تكوين هويته الدينية، حيث أن العربية لغة القرءان، وكونه يتحدث بها فهذا عمق الصلة بينه وبين المسلمين الذين يستعملونها يوميًا في صلواتهم، وشارك مليار شخص يتحدثون بها، بالطبع سيختلف عن الفرنسي الذي يعتنق ذات ديانته، ويكون للأولين أقرب، لأنه سيشعر تجاه الفرنسي بعمق الغربة والأشياء التي تفصل بين كل منهما، وأنهما لا يمكن أبدًا أن ينصبغا بهوية واحدة!

وبالتالي كل فرد فينا بالنهاية إن أجرى امتحانًا لهويته، سيجد أنه يتقاسم مع كل البشر انتماءًا ما مشتركا، إما باللغة وإما بالذوق وإما بالايدلوچية أو الحساسية المكتسبة أوجغرافية الارتحال..

هوية مختلفة تؤكد أن البشر عبارة عن حالات خاصة، لا تترسخ هويتهم بمجرد القول بأنا مغربي أو بوسني أو أمريكي! لأننا بالنهاية نذوب داخل حساء عديم الشكل، تمحى فيه كل الألوان، لكن كل فرد فينا يرسم لونه الخاص. فالمسيحي المصري مختلف عن المسلم المصري بالطبع، ولكن كل مسيحي مصري يختلف عن أي مسيحي آخر!

وبالتالي أحكامنا الضيقة ونظرتنا القاصرة تجاه المجتمعات  والأفراد هي التي تسجن العالم داخل انتماءات ضيقة، ونظرتنا ذاتها هي التي تحرره، ومن هنا كانت الحروب والنزاعات القومية والكراهية بين البشر، بناء على الوهم ونبتة العنصرية البغيضة داخل الفرد، لاستنتاجات مبنية على الوهم لا على الواقع والحقيقة!



Share To: