المُحب لا يبالغ كثيرا!
بقلم الكاتب و المفكر أ. رامي محمد
صرت أُصابُ بالهلع من العاطفة المتدفقة، أن أجد من يُجامل بالعبارات الكبيرة تحت شعار اللطف، "أحبك"، "صديقي المقرب"، ووصفات التفضيل الدائمة لأشخاص لا نعرفهم ولا يربطنا بهم صلة حقيقية!
كل شعور يحتاج إلى بناء لينضج حتى لا ينهار سريعا، وكل ما يأت على عجل نخسره بسهوله، لذا آمنت بالحذر من الأشياء العاجلة، وربما مما تعلمته مع الوقت صون العاطفة من الابتذال، ألا أجعلها مشاعًا لكل عابر، فالمحب لا يتكلف حبه، ولا يجمّل ألفاظه، وحدها العاطفة الصادقة جمال وزخرفة للحياة، تمنح صاحبها اكتفاء وسعادة داخلية، ثم تخلق فيه احتراما لها، فلا يبعثر كلماته لكل من هب ودب، بل يتحيّن الفرصة المناسبة ليعبر عنها بكل بساطة وصدق!
ربما أكثر الذين صافحونا بعنف وحرارة، هم أول من أفلتوا أيديهم منّا عند أول منعطف وأزمة، بل ربما هم من خلق الأزمة! ربما أكثر من ثاروا بحدّة وتحمسوا بعنف، هم أول من تبددت عواطفهم أمام بريق المنفعة، وصاروا أبرد الناس تجاه قضاياهم التي ادعوا الانتماء إليها يوما!
فصاحب العاطفة الزائفة هو من يلجأ إلى الاعتراف بالحب سريعا، هو الذي يزخرف ويبالغ بعبارات تخلو من الوداعة والبساطة، هو من يحب الله في صورته ويكفر به في جوهره، كمن يُجمّل وجههه بالمساحيق والزينة وعند ذوبان الوسائل المصطنعة يبدو على حقيقته خاليًا من الوسامة!
أعجبني وصف كونستان روماني حين تهيأ للسفر البعيد والرحلة الطويلة، ورغم أن حبيبته لا تقوى على رحيله وتتمزق لفراقه، لم تقل له وقت الوداع إلا كلمة "إن السماء صافية والنجوم جميلة"مجرد عبارة بسيطة لقضاء لحظة معه قبل رحيله، ثرثرة مفاجِئة تشعره بها كم أنها تحبه ولو لم تنطق بكلمات الحب المعهودة، لحظة لها أهميتها من الناحية النفسية لا من الناحية الزمنية، تحفظها في قلبها بعد رحيله وتعيش عليها!
لم أتفاجأ حين حُكيَ لي مرة أن فتاة اختلفت مع خطيبها وقررت فسخ الخطبة، فإذا به يُحضر لها دفترًا ًمسجلاً فيه ما أحضره لها وتكلفة كل وجبة غداء أو عشاء رومانسي تشاركا فيه الأحلام الوادعة، والآن يطالبها بنصف قيمة إجمالي الفواتير لأنه كان يشاركها الوجبات!
لم أتفاجأ حين وجدتُ صديقَيّ عمر يتلازمان ويتشاركان الحزن والفرح كما لو كانا شخصا ًواحدا أمام الناس، وعند أول خلاف يكتشف كل منهما أن هذه الصداقة كانت عَرَضا ًسطحيا تبخر أمام نار المصالح!
لم أتفاجأ حين وجدت شخصا انفصل عن زوجته التي كانت ملاكًا طاهرًا وبعد الفراق ينقلب الحال ويبدأ العاطفي الرقيق يُكيل الاتهامات لرفيقة كانت ظاهرًا أقرب الناس لنفسه والعكس!
هذا التناقض الصارخ بين الجوهر والصورة، جزء من تركيبة الإنسان في مجتمعاتنا، فحتى الطقوس الاجتماعية تعبّر عن عواطفنا بشكل غير صادق بما يكفي!
فالعاطفة في مناسبات الفرح عبارة عن مظهر اجتماعي يسبق المظهر النفسي الذي يتصل بنفسية العروسين، كالتباهي أمام الناس بالولائم وموقع العرس والهدايا وربما السير بغرفة النوم في شارع كما يحدث في بعض قرى مصر، ليعرف المارة أن السبع قد تزوج أميرة!
حتى الموت المقدس يتحول فيه الحزن إلى ظاهرة اجتماعية، ففي بعض البلدان العربية كانت تُستأجر امرأة للطم والندب، ليتكلف أهل الميت مشاعر الحزن أمام الناس!
وهكذا نشأنا بشكل غير إرادي على العواطف المزيفة، فالطقس الخارجي أهم من الشعور الداخلي الهادئ الذي يشعر به الانسان وحده، أو مع قلة يقتربون من مشاعره وإحساسه العميق!
لذا صارت الصورة في الدين أهم من الجوهر، وطقوس النفاق الاجتماعي من اللطافة، والعلاقات صارت هشّة، والبشر يعيشون مع بعضهم لأجل الصورة أمام الناس لا لأجل أنفسهم، إنها حقيقة سلسلة من الزيف في زمن المادة والاستهلاك قتلت روح الإنسان وهو حي!
Post A Comment: