نحنُ أمام قصيدة يبدأُ الموقفُ الدراميُّ فيها بتنبُّوءٍ حدوسيٍ تلقيه نجمةٌ سمراء بين يدي الشاعر – الذي يمثل الذات الإنسانية – حيثُ تؤذنه بانفصالٍ وقطيعةٍ بينه وذاتٍ أنثوية غير محددة الهوية . يبدأُ الشاعر رحلته من هذه النبوءة الظلاميّة منطلقًا من أجواءِ اغترابٍ ووحشةٍ ؛ إذْ ألقت إليه هذه النجمةُ حدوسها الموجعة في خطابٍ إقصائيٍ متعالٍ ، :
حين اقتسمنا الليل
قالت نجمةٌ سمراء تمشِّط شعرها الفضي في ركن المجرّة وحدها :
يااااأنت
خُذ شَرقيَّهُ الأقصى
ودع غربيَّهُ الأدنى لها ،
سَيَحُولُ بينكما إذا انتصف الهوى
صمتٌ فصيحُ
من هنا يبدأُ الشاعرُ رحلةً غير تقليدية – روحية عقلية - إذْ لا يجوبُ المكانَ داخل الزمان ، بل يواجهُ المكان والزمان ويواجه ذاتهُ ، مُسائلًا عن

الكُنه والحقيقة و المصير والجدوى ، مُقتفيًا آثار تلك النبوءة الموجعة . ونحنُ نقتفي أثر الشاعر وأثر التجربة في حيزٍ مكانيٍ ناءٍ ومستعصٍ - وغير مأهول ٍ - حدده الشاعر في قوله : " ووجدتُني وحدي / بشاطئ بحر أحزاني " . في هذا الموضع – من خريطة الذات الإنسانية – تدورُ أحداثُ الموقف الدرامي لهذه القصيدة .
وتنقسم القصيدة /الرحلة إلى سبع فقرات – أو مراحل – بما يُذكرنا بعدد الرحلات في التراث الشعبي – أو الفولكلوري – وأشهرها رحلات السندباد – كما يُذكرنا بالوضعية الخاصة التي اتخذها الرقم سبعة في الطرح الديني والذاكرة الإنسانية – عامة – إذ يتعلق بعدد السماوات – أي بدلالة الارتقاء - وعدد الأرضين – أي بعالم الأسرار - وعدد أيام الخلق – أي بدلالة التخليق والبزوغ والمخاض . يحملُ الرقم سبعة في هذه القصيدة ظلالًا من وضعيته الرمزية المُشار إليها ؛ فيبدو دالًّا على اجتياز رحلة كشفية مجهدة في سبيل الارتقاء والكشف والوصول إلى معرفة ويقين ؛ فالشاعرُ لا يجتاز – في هذه الرحلات – المغارات والبحار والكهوف وبيوت الغيلان – مثلما فعل السندباد في رحلاته – بل يجتاز غموض الحياة وقسوة الواقع واستعصاءه على التفسير ، كما يحاول اجتياز عجزه الإنساني – الحتمي – للقبض على لحظة حياة . هذه هي أهواله ورحلاته السندبادية .
ووفق هذه الرؤية النقدية نتلقَّى فقرات القصيدة كمدَارجَ دلالية يمثّلُ كل منها مرحلة من مراحل تطور الموقف الدرامي فيها وذلك على النحو التالي :
- مرحلة النبوءة الحدوسية .
- مرحلة توحّد الذات وعزلتها .
- مرحلة المساءلة .
- مرحلة المواجهة والكشف ( وتستغرق فقرتين من القصيدة )
- مرحلة الوعي .
- مرحلة البحث عن الحياة .
أمَّا ذاتُ الشاعر فنتلقّاها في هيئتين : الأولى ذاتٌ ساردةٌ ، والثانية ذاتٌ مرئيةٌ ؛ بما يمنحُ القصيدة بنية المسرودة الشعرية . يقول الشاعر :
ووجدتُني وحدي
بشاطئ بحر أحزاني
ولا (يقطينةٌ) حولي تظللني
و(حوتُ) مواجعي مازال يرمقني هناااك بعينهِ الحمراء،
يَعثرُ في (رُقَى ألواحه) نبضي الجريحُ "
ووقفتُ مرتبكاً أُسااااائل
من أُسائل ؟!!!
ليس من أحدٍ بقرب تأوّهي
وأنا غدوتُ بصفحة النّسيان لَستُ أنا، وليس الكون كوني،
كلما أنصَتُّ أرهَبني الفحيحُ
***
ماذا يدورُ هنا ؟!صباحٌ خائرٌ
شمس مكفّنةٌ
سحابٌ خاثرٌ
بٓرٓدٌ تُرابيٌّ
وبرقٌ خائنٌ
وفَمٌ كَسيحُ
***
وأرى بِحارًا من لَظى تغلي ،
نخيلا جاوزت سَمْك السُّهى عبثًا
تُساقِط في المدى سَغَبًا،
جبالاً راسياتٍ من هباءٍ
بعثرتها في ضحى الإفلاس نفخة جاهلٍ أعمى
وكثبانا من الـ(ـ .....) تمضغها بِراسخِ غدرِها الأزلي
رِيحُ
***
أَجَلي المُؤجّلُ
سطّرتهُ
بِدمعها القاني
(حروفُ الجرّ)
و( الفَرّاء)
لم يُنكر
و ( ديكُ الجنّ ) فوقَ دمي
بشيءٍ من
( شذا دمها )
يصيحُ
***
ما زلتُ أسألُ نُطفتي الـ( شُكّلتُ من أمشاجِها )
أيّانَ مرسَى لَهفتي الحُبلى ؟!
إلى من مُنتهى وَجلي ؟
وأين مفرّ آهاتي ؟
وهل سيعيدُ لِي بَصري ويُحييني
بِمسحةِ كفّهِ اليُمنى : (مَسيحُ ) ؟!!!!
• فيما يخصُّ وضعية الضمائر – باعتبارها من الظواهر التراكيبية - تنتقلُ القصيدة من ضمير المفرد المؤنث – الدال على النجمة – في الفقرة الأولى في القصيدة – إلى ضمير المفرد المتكلّم الدال على ذات الشاعر – على مدار بقية القصيدة - ويستتبعُ هذا التغيير انتقال وضعية الرائي – الشاهد – من النجمة إلى الشاعر ، فضلًا عن الانسجام والاتِّساقِ بين شيوع الضمير الدال على ذات الشاعر- من جهة - و مناخ العزلة والوحشة - الذي شاع عبر مراحل القصيدة - و أشار إليه الشاعر في قوله " ووجدتني وحدي / بشاطئ بحر أحزاني ، من جهة أخرى .
• ارتكز الشاعرُ حسن الزهراني على عدّة أساليب فنية – ولغوية – لتصوير هذا المناخ ، فقد اعتمد على الأسلوب التقريري في تصوير عزلته ووحشته ، كما في قوله " ووجدتُني وحدي / بشاطئ بحر أحزاني " – وقوله " و(حوتُ) مواجعي مازال يرمقني هناااك بعينهِ الحمراء " – بينما اعتمد على أسلوبِ الاستفهام في المواضع التي صوّر فيها بحثه عن اليقين – بما جسّد الحيرة والاضطراب وافتقاد السُّبل – من ذلك قوله :
" ماذا يدور هنا " ، و" من أُسائل ؟!!! "
وقوله : " أيّانَ مرسَى لَهفتي الحُبلى ؟!
إلى من مُنتهى وَجلي ؟
وأين مفرّ آهاتي ؟
وهل سيعيدُ لِي بَصري ويُحييني
بِمسحةِ كفّهِ اليُمنى : (مَسيحُ ) ؟!!!! "
الانسجامُ بين الدلالة والأسلوب الفنيّ نتلقّاه في المواضع التي يتردد فيها أسلوبُ النفي في هذه القصيدة دالًّا على افتقاد الذات للانتماء – و افتقاد الخلاص – كما في قول الشاعر : " ليس من أحدٍ بقرب تأوّهي " ، و" ولا (يقطينةٌ) حولي تظللني " و" لست أنا " ، " ليس الكونُ كوني " ، بما أبرز هيمنة المناخ الاغترابي ، ونلاحظُ في موضعي النفي الأخيرين أنّ الشاعر انطلق من نفي الذات إلى نفي الكون ، وهذا مسارٌ دلاليٌ طبيعي ؛ فحين يغتربُ الإنسانُ عن ذاته – ويُنكرها - يغتربُ عن كونه ؛ فالكونُ يتحددُ مداه بدءًا من حدود الذات ، كما تتحددُ سماته وفق تمرئيه في مرآة هذه الذات . و لا نُغالي – إذن - حين نقولُ : إنّ لكل ذاتٍ كونا ، بما يقتضي تعددَ الأكوانِ .
على صعيدٍ فنيٍ آخر نلاحظُ أنَّ الصورة الشعرية تتخذُ وضعية المَشَاهد السينمائية ، إذْ نستشعرُ أنّنا أمام كاميرا تنتقلُ بنا بين عدةِ لقطاتٍ جزئية تندرجُ تحت صورة كلية لها الدلالةُ ذاتها على المناخ العدمي والأجواء الاغتراب والعجز ، على هذا النحو تتوالى اللقطات الجزئية في القصيدة : صباحٌ خائرٌ ، شمس مكفّنةٌ ، سحابٌ خاثرٌ ، بٓرٓدٌ تُرابيٌّ ، برقٌ خائنٌ ، فَمٌ كَسيحُ ، بحار اللظى التي تغلي ، النخيل المتطاول عبثًا ( المتساقطُ سغبا ) الجبال الراسيات ( المبعثرة ) ، الكثبان التي تمضغها الريح . إنَّ عناصر الكون - في هذه الصور –ذاتُ وجودٍ عدميٍ – وجودٌ هو كالموتِ – فهي إمّا خائرة القوى أو مُكفّنةٌ ، أو خاثرةٌ ، أو ترابيةٌ ، أو مُغتالة – الكثبان التي تمضغها الريح - أو ذاتُ وعدٍ كاذبٍ – مثل البرق الخائن والجبال الراسيات المبعثرة والنخيل المتساقط سغبًا . وهناك عناصرٌ تشيع الموتَ وتسلب قوى الحياة - البحار التي تغلي لظىً منذرة بهلاكٍ ما – أمَّا الفم الكسيحُ فصورةٌ دالةٌ على ضعف الذات الإنسانية وقهرها ممَّا يتماهى مع المناخ العدمي للصورة الكلية .
برزَ أسلوبُ التَّناص – وهو من أساليب الأداء اللغوي – في أكثر من موضعٍ في القصيدة ، منها تلك الإشارة إلى قصة النبي " يونس " – عليه السلام – في قول الشاعر :
" ولا (يقطينةٌ) حولي تظللني
و(حوتُ) مواجعي مازال يرمقني هناااك بعينهِ الحمراء"
يوظّفُ الشاعر المفردتين اللتين وردتا في الطرح القرآني - في السياق الذي ورد فيه ابتلاء يونس عليه السلام - يقول تعالى في سورة الصافات : فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ146 "
لقد طُرحَ الحوت – في الآيات الكريمة – بوصفه ابتلاءً ، وطُرِحَ اليقطينُ بوصفه شفاءً ، أمَّا في هذه القصيدة ، فقد طُرح الحوتُ دلالةً رمزية على الظلمة والمتاهة والاغتراب اللانهائي - مما يتسقُ مع وضعه في سياق زمن المضارعة - أما اليقطينة فقد طُرحت رمزًا لخلاصٍ مُراوغٍ مستعصٍ ، وحلمٍ ناءٍ ؛ ولذلك سُبقت بنفيٍ قاطع ٍاتساقًا مع المناخ العام والمسار الدلالي للقصيدة .
موضعٌ آخر ارتكز فيه الشاعر على أسلوب التَّناص ، وهو في هذه المرة يوظّفُ قصة الشاعر ديك الجن الحِمصي . يقول :
و ( ديكُ الجنّ ) فوقَ دمي
بشيءٍ من
( شذا دمها )
يصيحُ "
لقد تضافرت ذاتُ الشاعر مع مأساة قتل ديك الجن زوجته – البريئةً - فأقام علاقة تناظرية بين ضمير المفرد الغائب – الدال على هذه الزوجة – و ضمير المفرد الغائب الدال على الذات الأنثوية التي أُنذر بالانفصال عنها – في نبوءة النجمة – وقد جسَّد هذا التضافر – الدرامي – من خلال الإشارة إلى وطأ ديك الجن دمه بشئ من دم هذه الأنثى ، وهو بهذا التوظيف الرمزي يبرزُ تماهيه التناصي مع هذا الموضع من التراث ، هذا فضلًا عن أسلوب التورية الذي اعتمد عليه في استعمال اسم " ديك الجن " ، والفعل " يصيح " ، ممَّا انحرف بدلالة الصياح إلى أن تكون نذيرًا يضئُ هذا التضافر بين الذاتين الأنثويتين . من هنا أفترضُ أنّ مفردة " الأجل " - التي وردت في عنوان القصيدة وترددت في خاتمتها –لا تحمل دلالة على المصير الفردي لذات الشاعر ، بل تُعبّرُ عن إشكاليةٌ ذاته المنغمسة في البحث عن مصير الذات الجمعية - الأمة والمجتمع الإنساني عامة - التي رمز لها بضمير الأنثى ، وطرح ذاته شاهدًا على لحظة تحولها الكبرى ، ومن هنا كانت هذه القصيدة بمثابة رصد لحظة الإعتام التي تكابدها هذه الذات في ترقّبِ أجلها العالقِ في المتاهة بين التأميل والمكابدة . وعلى ضوء هذه الرؤية نتلمس المفارقة الواقعة بين مفردتي " أجَل " ، و" مُؤجّل " ؛ حيثُ تحملُ المفردة الأولى ظلالَ الحتمية – فالأجلُ موعدٌ مُحددٌ صارم – بينما تحملُ مفردة " المؤجّل " ظلالَ التراخي – أو الإمهال – والإزاحة الزمنية لهذا الأجل .
• ممَّا ينسجمُ مع مناخ العزلة والعجز والاحتجاز – الروحي – وغير ذلك ممّا يحاصرُ ذات الشاعر ، الحضورُ الصامت لهذه الذات ، حيثُ لم يسندُ إليها فعل دال على الكلام أو الحوار – فيما عدا المونولوج – بينما أسندَ الكلامُ إلى طرفين في القصيدة : النجمة ذات الرؤية المنذرة ، وديك الجن الصائح فوق دم الذات الشاعرة .
• تتسقُ هذه الوضعية مع طبيعة الأصوات في هذه القصيدة ؛ إذ نلاحظُ شيوع – وتردد - الأصوات المهموسة في المفردات المسندة إلى الذات الشاعرة ، من ذلك صوتُ الحاء ، كما في : وحدي ، بحر ، أحزاني ، حولي ، حوت ، حمراء ، الجريح ، أحد ، صباح ، سحاب ، بحار ، ضحى ، الحبلى . فضلا عن أن الحاء هو صوتُ الروي الذي تختم به قافية كل فقرة من القصيدة ، كما في : فصيح ، كسيح ، يصيح ، فحيح ، ريح ، مسيح .
والحاءُ من الأصوات الحلقية – من جهة المخرج – رخوي – من جهة شكل المخرج – وهو صوتٌ مهموسٌ مرقّق .
صوتُ السين يتردد بكثرة – أيضا – في المفردات المسندة إلى الذات الإنسانية المغتربة ، ومن ذلك : شمس ، كسيح ، سحاب ، سمك السهى ، راسيات ، الإفلاس ، راسخ ، ...وغيرها من مفردات .
وصوتُ السين أسناني لثوي المخرج ، رخوي في هيئة مخرجه ، مرقّقٌ مهموس من حيث تحريكه الأوتار الصوتية .
نصلُ إلى صوتٍ ذي طبيعة مغايرة ، هو الجيم - وهو أساسٌ في عنوان القصيدة - وهو صوتٌ غاريُّ المخرج ، مركبٌ مزدوجٌ في هيئة مخرجه ، لكنه صوتٌ مجهور تهتزُ الأوتار الصوتية عند صدوره – أو نطقه – وهو بهذه الطبيعة الصوتية الواضحة يتردد في عنوان القصيدة – وفي مواضع أخرى – ممّا يلفتُ انتباهنا لهذا الانسجام بين وضوحه وطبيعته المجهورة ، وبين اتصاف دلالة الأجل بالقوة والحتمية والنفاذ ، واتصاف التأجيل بالقدرية ، وهي حتمية أيضا .
يشيعُ صوتُ الجيم في مفردات تدل – في الغالب – على الأطراف التي ساهمت في حصار الذات الإنسانية بالعجز والوحشة والعزلة ، من هذه الأطراف : نجمة ، مواجعي ، جبال ، جاهل ، حروف الجر ، مجرة .. مما يدفعنا إلى افتراض كمون الأجلِ – المؤجل - في هذه الأطراف التي آذن بعضها بانهيارٍ وتداعٍ ما ، مثل الجبال والجاهل والأمشاج وحروف الجر .
من ناحية أخرى نشيرُ إلى هذا التناظرٌ بين بدء القصيدة وختامها – من الناحية الصوتية – فقد تضمن البدءُ حضورًا صوتيًّا متعاليًا للنجمة السمراء الرائية ، وتضمن الختامُ حضورًا صوتيا مؤثرًا لديك الجن – ماثلا في صياحه – وما بين البدء والختام شاع صمتُ الذات الإنسانية إلّا من مونولوج دالٍ على عزلتها وعجزها عن استيعاب ما طرأ على الواقع – والوجود – الإنسانيين من متغيراتٍ تعترضُ مسارات الحياة ، ممّا صور – وجسد – حصار هذه الذات ، ولكن من خلال الوضعية الصوتية لمفردات القصيدة .
أما الفقرة الأخيرة في القصيدة – وتمثل مرحلة البحث عن الحياة – فقد طرح فيها الشاعرُ توقه إلى الرؤية ، والبصيرة ، باعتبارها جوهر الخلاص من الظلام والعتمة التي تحول دون القبض على معنى هذه الحياة .


الشاعر حسن الزهراني



Share To: