كلما أصابني هم أو ضاقت بي الدنيا هربت لمسرحيات فؤاد المهندس وشويكار. لكني أود تخصيص الحديث هنا عن تلك الفاتنة التي استطاعت أمام عملاق مسرح مثل المهندس أن تخرج من مساحة الدمية الجميلة أو السنيدة، لتحتل عن استحقاق مساحة البطلة التي لا يقل تأثيرها في العمل عن تأثير المهندس.
مع أول ظهور لشويكار في مسرحية السكرتير الفني تجلى اختيارها لسكة الأداء: الطبيعية والبعد عن التكلف، صحيح أنها لم تتجاوز السنيد كثيرا في هذه المسرحية، لكن الأعمال التالية شهدت ازديادا في حضورها وتميزها، ما سمح للكتاب بالاعتماد عليها بصورة أكبر تخطت في بعض الأحيان مساحة المهندس نفسه كما حدث في سيدتي الجميلة.
شويكار إبراهيم صقال، مصرية من أب تركي وأم شركسية، لفت جمالها الأنظار في نادي سبورتنج بالأسكندرية، بدأت حياتها الفنية بأدوار تراجيدية، ويرجع الفضل لفطين عبد الوهاب في اكتشاف القدرة الكوميدية فيها، ليمنح تراث المسرح الكوميدي طاقة إبداعية تجلت في عدد كبير من المسرحيات التي لم يسجل بعضها للأسف. المدهش في شويكار أنها رغم جمالها الشديد، لم تعتمد في أدوارها المسرحية عليه إلا في حدود ما يحتاجه الدور وبرقي شديد. في مسرحية أنا وهو وهي مثلا تخرج شويكار على المسرح كزهرة متألقة لتقدم مع المهندس المشهد التأسيسي، الفتاة التي تجبرها الأمطار على قضاء الليل في غرفة شاب لا تعرفه في أوبرج الفيوم، ،هي تخادعه لتجبره هو على النوم في غرفة الصالون الملحقة مستمتعة هي بالنوم في الغرفة الرئيسية. ولنتأمل كيف تنقلت شويكار برشاقة من مساحة البنت الشقية التي تطلق طريقتها في التهكم ضحكات الجمهور، إلى مساحة الليدي التي تسحر عقل الشاب، إلى مساحة سيدة المجتمعات المحافظة التي ترفض أن يمس الشاب كرامتها لمجرد أنها اضطرت لقضاء الليل في غرفته.
في مسرحية حواء الساعة ١٢ تتسع مساحة الدور وتواجه شويكار اختبارا صعبا، فهي تلعب دور روح تعود للحياة الأرضية بفعل استدعاء أحد محضري الأرواح لها عن طريق الخطأ، فتدخل إلى خشبة المسرح بوصفها طيفا هابطا من الجنة، وقد ساعدتها ملابسها الحريرية التي تتطاير حولها في تعزيز الإحساس بأنها كائن شفاف. التحدي الملقى على شويكار كان ضرورة أن تعطي الانطباع بأنها ليست كائنا بشريا يخضع لقانون الجاذبية، فكان لابد لها أن تتحرك بسرعة متقافزة فوق الكراسي والطاولات لتمنح المشاهد الإحساس بأنها روح قادرة على الطيران كيفما شاءت. من ناحية الأداء كان لابد أن تتجاهل في حركتها أعين الجميع، وكان على الجميع أن يتجاهل حضورها، باستثناء زوجها السابق لأنه الوحيد الذي يستطيع رؤيتها وسماعها. ملأت شويكار المسرح بخفة روح لا مثيل لها، ثم تحولت في المشهد الأخير إلى شخصية أخرى تماما، حين يكتشف الزوج أن كل ما حدث كان حلما، وأن زوجته فكرية (شويكار) لم تمت. تهبط شويكار بعد عودتها إلى الهيئة البشرية الرزينة بأداء هادئ يقوي إحساس المشاهد بصورتها الأولى كروح. الفرق بين الأدائين يشعرك فعلا أنك أمام شخصيتين إحداهما من صنع خيال البطل الذي كان يحلم، والثانية واقعية.
تأتي قمة الأداء المسرحي لشويكار في مسرحية سيدتي الجميلة. التي تنتقل فيها من فتاة مشردة نشالة تعيش في بيئة منحطة، إلى سيدة مجتمع ترتاد أرقى المنتديات. وقد تنقلت شويكار باقتدار بين ثلاث مراحل في هذه المسرحية، الأولى هي الفتاة النشالة بكل سوقيتها وتطاولها وجهلها، والثانية هي مرحلة المتعلمة التي تقاوم التعلم بقدر رغبتها فيه وتصارع ما تربت عليه في سبيل تغييره، والثالثة هي مرحلة اكتمال التحول إلى سيدة المجتمعات الأرستقراطية. كانت شويكار مقنعة في المراحل جميعا، أضحكتنا وأقنعتنا حين كانت نشالة تلبس الجلبية البلدي وتضرب بالشلوت، وأضحكتنا بشدة أثناء تعلمها حين كان موروثها يتبدى رغما عنها، وأخيرا كانت مقنعة ببساطتها العميقة حين تحولت إلى سيدة المجتمع التي تبهر الخديو برقتها وثقافتها. وهناك عشرات الأدوار التي لم تقف فيها شويكار على المسرح مكتوفة الموهبة أمام حوت الكوميديا فؤاد المهندس، بل صاغت حضورا خاصا لا ينسى، ما يجعلها تستحق لقب سيدة المسرح الكوميدي عن جدارة.
Post A Comment: