“الدروز” كلمة تُطلق على طائفة من الطوائف الموجودة في بلاد الشام عموما ، وفي سوريا خصوصا ، سواء أحبوا الكلمة أو كرهوها فهي لاصقة بهم ويدافعون عنها محوّلينها إلى صفة تميّزهم عن غيرهم من طوائف الشام .
وألحقت بمسمّيات عديدة منها بنو معروف أو جبل العرب أو الموحّدون بما يخفّف عند اعتقاد البعض من كلمة “الدروز” كصفة طائفيّة كما حصل في عهد البعث وعهد الأسد بشكل خاص كاعتناء بالألفاظ وتكريس ممارسات تجعل المجتمع يطمر طائفيته كالنعامة أو كجمر مغطّى برماد .
ولا أقول هذا من باب الرفض ولكن من باب القول إن بناء مجتمع سوري على أسس وطنية علمية كان متاحا بالعلمانية والمساواة خلال انتشار الأحزاب ومنها البعث الذي حكم البلاد بأفكار عروبية لم يطبّق منها سوى الخوف والتظاهر بالولاء لأفكاره التي استخدمت لمصلحة الحكم .
وهنا لا أنوي الحديث عن السياسة محاسنها ومساوئها فلست متخصصا بهذا إلا من جهة عامة كمواطن.
حديثي الآن عن رواية (سرمدة) التي قرأتها بعد رواية (بيت حُدُد) وهما باختلاف ترتيب قراءتي فسرمدة سبقت بيت حُدُد بما يقارب تسع سنوات وكلاهما للكاتب الروائي فادي عزّام ابن الجبل (جبل الريّان) جبل العرب أو جبل حوران عاصمته السويداء في جنوب سوريا وأكثر سكّان الإقليم من “الدروز” .
طبعا بغيضة لي تلك التسميات في معناها الطائفي وأنا من مدرسة أنطون سعادة -فكريا لا حزبيّاً- المعروفة بأن أفكارها أذابت الحواجز الطائفية بين أتباعها بوعي خالص واستمرت بـ (الأنقياء) من تلامذته وبأجيال تتالت .
وهنا أجدني مصرّا على استخدام كلمة “الدروز” كجزء من سوريا وشعبها بالمعنى السياسي لهويتها ككيان قطري .
إصراري أستمدّه من رواية سرمدة التي حملت هوية المكان والناس بكل ما تعني الحقيقة من معنى والصدق من جرأة والشفافية من حب وانتماء أيضا .
سبق لي أن قرأت روايات كتبت عن المكان وناسه والحياة بماضيها وحاضرها تحمل فيما تحمل معتقداتها سواء بنقد أو بمحبة ، ومنها ما أثار غضب المشايخ وطالبوا بمنعها .
فادي عزّام ربما بحكم بعده خارج إطار البلد وهذا ليس كل شيء فهو بأبعاده الثقافية وتحرّره ووعيه العميق مؤمنا بحرية الفرد "الإنسان" وأن لا رقيب يجب أن يكون على الكاتب سوى ضميره وصدقه مع نفسه ومؤمنا بلا شك بذاته إيمانا لا بالمعنى الديني بل بالمعنى الأخلاقي للتحرر ، وبالحرية تلك الكلمة الفضفاضة في قواميس العصور والأمم ، وحرية الكاتب واضحة لا لبس فيها بأنها حق لا يحق لأحد أن يقف بوجهه لا رقيب أولي الأقربين ولا رقيب سياسي أقل ما يوصف بأنه يحمل أنياب كلب مسعور في فم أحكامه .
معارفي من أهل جبل العرب جلّهم من المثقفين (شعراء وروائيين) رجالا ونساء مبدعات ، ولي صديق مبدع كتب عدة روايات جميلة في سنوات حياته الأخيرة وهو شقيق الروح نبيل حاتم رحمه الله توفي عام 2013 حملت كثيرا من روح جبل العرب .
كما لا يمكن أن أنسى رواية "قصر المطر" المذهلة وبعدها "أرض الكلام" قرأتهما حين صدورهما للكاتب المبدع ممدوح عزّام .
وكما يقول العرب (الشعرُ من أنت في شعره) فلا مقارنة ولا مفاضلة بل أنا في ما هو الآن بعد قراءتي لرواية "سرمدة" بصراحة وجدت نفسي لا أعرف عن تلك المنطقة إلا القليل وأجازف بقولي أيضا برغم سعة ما عرفته من هذه الرواية فلم أعرف إلا بعضا ولسان الراوي في نهاية الرواية (رافي عزمي) يقول: (جئتُ سرمدة _ويعني السويداء بل كل الجبل_ لأجد بلدة لا أعرفها وحكايات لم أسمع بها من قبل أو لنقل لم أكن أصغي لها جيدا . صار علي أن أختم كل ذلك . أوقف تحبير الحكايات لا لشيء سوى لأنها لن تنتهي يوما .)
ومعه الحق فالغنى في تلك الطائفة الكريمة لا يكفيه رواية ولا كتاب لخصوبة القلوب والعقول معا .
نشأتُ طفلا في كنف جدّي وكان يفترضني بمستوى حديثه ويحدثني كختيار سنّي قائلا: جبل “الدروز” جبل الكرم والشهامة والأصالة جارهم عزيز وضيفهم مكرّم ومستجيرهم مصان مهما كلّف . والخط الأحمر الخطر عندهم العرض .
نشأتُ أحبهم وفي قريتنا امرأة من جبل “الدروز” رحمها الله اسمها بردقانة صديقة جدّتي كانت من أسمتني باسمي "شاهر" والدي أراد تسميتي على اسم أبيه "محمد" ولكنها قالت اليوم توفي رجل في الجبل اسمه شاهر في نفس ساعة ولادة ولدكم واعتقادي أن روحه زارتني فقلت لكي يبقى شاهر بيننا ، وافق جدّي فورا وتوافقوا على تسميتي لإرضاء الجميع (محمد شاهر) ونُسي الأول تماما لولا سجل النفوس .
سكنتُ لستة أشهر أواخر عام 1973 في السويداء كنت يافعا وحاولت أن أكون منهم لهجةً وقربا من عاداتهم آخذا بما قاله جدّي لي في طفولتي .
واستمر هذا التوق عندي كلما عثرت في حياتي المشتتة بالأسفار على صديق وهم يقيمون مكانة للصداقة قل نظيرها في العالمين ، وعرفت الكثير كما اعتقدت واعتددت بنفسي ، ولكن (سرمدة) فادي عزّام جعلتني أخجل من معرفتي واعتدادي بالمعرفة ، فادي عزام روائي موسوعي وليس حكمي هذا من رواية سرمدة فحسب بل أيضا من روايته "بيت حُدُد" المختلفة تماما عن روايته الأسبق "سرمدة" الاختلاف بتعمق التجربة الروائية وجرأته في التجاوز وامتلاك اللغة ولكن الجذر واحد ففي كليهما روح الكاتب وعقله وسعة معرفته وما يجمّله بالأخيلة فضلا عن اللغة الشعرية والسباحة الكلامية في مياه اللغة السلسة التي تجعل القارئ صديقا حميما لا قلب له على مفارقة الكتاب .
(وإن كنت عاتبا لوجود عديد من الأخطاء النحوية التي لا يجب أن تكون وهذا في لغتها الفصحى وليس العاميّة) ولم أقف عندها بهذه الملاحظة . وربما في طبعتها الثانية اجتازت هذه الأخطاء ولي مخرج بالاعتذار .
(سرمدة) عدد صفحاتها 224 صفحة افتتحت صباحي بشرب (المتّة) لا مجاراة لأهل سؤادا أو (سرمدة) بل لأني من القلمون المعروف بأنه من أوائل من اكتسب عادة شرب المتّة في سوريا بسبب مغتربيه في الأرجنتين بالذات منذ منتصف القرن التاسع عشر
وفتحت الرواية بل حملتها معي إلى المطبخ حين انتظرت إنضاج طعام الغداء وما حل المساء إلا وقد أنهيتها .
لست ناقدا يا جماعة وكل ما أكتبه يخصني ، لذا لا أعنى بتفاصيل النقاد ولا باستشهاداتهم من سياقات الكتاب ، فأنا لا أحكي للقارئ لألخص له القصة أو ليقول كفاني بمقاله عن قراءة الرواية ، لكل قارئ علاقة خاصة بما يقرأ ويتولد منها انطباعاته ، نعم قرأتها لـ (سرمدة) وصرت أعتبرها روايتي في كل أبعادها كما إني أقول إن الكثير مما جاء في الرواية عن حياة الناس وحركية المجتمع له صفة عامة إن في سوريا وإن في بلاد تشبهها ، وإن كانت الرواية بخفاء تقول إن مسيرة الحياة في سرمدة (الدروز) تعكس في كثير منها العقيدة مؤالفةً وحتى تمرّدا فالتمرد نفسه انعكاس بطريقة ما لتأثير العقيدة .
كما أن الرواية لا تعتبر رواية محلية بالمعنى الضئيل للمحلية ، إنها رواية حياة بل حيوات لا تقدم المعرفة بمعناها الجاف إنها أولا وأخيرا تعرف كيف تقدم الحلوى وهي في أدسم وجباتها ، وإذا قلت إنها روايتي لم أجانب الحقيقة فقد وجدت نفسي في كثير من شخوصها ووجدت ناسي في ناسها ، بل دون حرج أقول عشت مواقف رهيبة مشابهة في طفولتي لإحدى شخصياتها (بلخير ابن صف الأول الإبتدائي مع بثينة البالغة 25 سنة) كنت أقرأ وأقول بالتأكيد لم أعرف الروائي ولم ألتق به ولم تصل له حكايتي وما هذا التشابه بتوارد خواطر إنما بكل تأكيد تشابه إنساني كما نتشارك فيه بسوريا نتشارك فيه مع العالم .
لا لن أحكي لكم قصة "بلخير" وكيف تعلّم الحروف وهو يلعق دبس العنب مخطوطا كأحرف على جسد ، من يستعجله فضولُه ليقرأ الرواية سيجد ما هو أجمل وأعلى عيارا في الوصف وبلغة ساحرة .
(جنون وحرفية فائقة في سرده فادي عزام في هذا الفصل وفي تدرّجه)
والرواية لم تفتعل افتعالا أي نص داخلها ، فلا حشو ولا دحش ولا كما تفعله المسلسلات من برود يدحش فيه لقطات مثيرة ، فكل الرواية تسير كسيل جارف ضمن سياق وادي هدفها الواعي بأنها رواية .
لقد أطلت عليكم في حديثي وأنا أكتب عادة إن وجدت وقتا ومزاجا نفسيا وحوافز (تحت عنوان خواطر في ظلال رواية كذا ....
(سرمدة) تستاهل أن يكتب عنها كتابات تستحقها من متخصصين في النقد - وقد يكون كتب لا أعرف –
لا مجرد مقال من كاتب خواطر تدافعت تحت ظلال سرمدة .
***
Bad Doberan – Deutschland
13.09.2020
شاهر خضرة Shaher Khadra -
شاعر وكاتب من سوريا
Post A Comment: