.                          محمد حجازي


كثيرا ما يستخدم الشعراء تكنيك القناع ؛ ليختفوا وراءه ويحمّلونه آراءهم وأفكارهم ، وخصوصا في ظل وجود سلطة جائرة تعمل على قمع الحريات وتكنيك القناع هو تطور لأسلوب الرمز وهو من الظواهر الأسلوبية التي تساهم إلى حد بعيد في إنتاج الصورة الشعرية ، ويري إليوت " أنها السبيل الوحيد للتعبير عن الوجدان في شكل فني ، وذلك عن طريق إيجاد معادل موضوعي ، أو بإيجاد مجموعة أشياء أو سلسلة أحداث ومواقف لتصبح قاعدة لهذا الوجدان ، حتى إذا ما اكتملت الحقائق الخارجية ، والتي لا تكاد أن تنتهي إلى خبرة حسية تحقق الوجدان المراد إثارته " ( 1)

وبلند الحيدري من الشعراء الذين أوجدوا من خلال تكنيك القناع عالما شعريا متميزا يموج بالحركة والحيوية التي تنتجهما الصورة الشعرية ، والتي لا تمنعها حدود الواقع أو السلطة ، فمن خلال القناع استطاع الحيدري أن يتفلت من قبضة النظام ؛ ليقول ما يريد وقتما يريد .

ومن القصائد التي استخدم فيها بلند الحيدري تكنيك القناع ببراعة كبيرة ، قصيدة " عودة الضحية " ، حيث استخدم الشاعر قناع " سعيد بن جبير " ، ومن خلالها يعمل الشاعر على ثنائية ( السيف / الكلمة ) ، فالسيف هو رمز للسلطة / الحجاج    والكلمة رمز للكلمة .

يقول الحيدري :

- لكني يا حجاج

وكما تعرفني

سأظل بصيصا يتفيأ وعدا في ضوء الشمعةْ

قد يصبح شمسا

قمرا

نهرا

فجرا يبزغ من عيني مشنوق في باب القلعةْ

فأنا أعرف أن القاتل

إذ يستنجد بالمقتولْ

يوسع في ذاكرة الدنيا

خبرا عن زمن مجهول

زمن يتمنى القاتل لو كان هو المقتولْ .

- يا جلاد … اقتله …. اقتله … اقتله

انثر لحم سعيد بن جبيرْ

في كل دروب الضيعةْ ( 2)

ويجدر الإشارة – هنا – إلى أن هناك أوجه للتشابه بين " سعيد بن جبير " وبلند الحيدري ، فكلاهما كثير الترحال خوفا من بطش السلطة / الحجاج ، حيث هرب سعيد بن جبير من " أصفهان" ثم إلى مكة ، ثم منها إلى قصر الحجاج "(3 ) وبلند الحيدري هرب كثيرا بين العواصم العربية ولندن ، غير أنه لم يكتب له العودة إلى العراق حيث مات غريبا في " لندن ".

إن سعيدا / الشاعر سيظل قائما على بصيص من الضوء ، فقد يصبح هذا البصيص الخافت من ضوء الشمعة شمسا ، أو قمرا ، أو فجرا ، فلقد أصبح سعيد بن جبير / بلند رمزا للجهاد ضد الظلم فإن مات فقد مات جسدا ، وعاش رمزا   وكم من مقتول تمنى القاتل لو أنه تركه حيا ولم يقتله ، وهذا ما نلمحه من خلال سيرة الحجاج الذي شعر بكثير من الندم بعد مقتل " سعيد بن جبير " من خلال مقولته " يا قوم مالي ولسعيد بن جبير كلما عزمت على النوم أخذ بخفاقي " وقد روي عن الحجاج أنه مكث أربعين ليلة لا ينام ، فإذا نام رأى سعيدا آخذا بمجامع ثوبه ، ويقول : " يا عدو الله فيم قتلتني " ( 4)

فالمقتول : (  يودع في ذاكرة الدنيا / خبرا عن زمن مجهول ) هذا الزمن الذي يثور فيه الناس على الظالم ، ويظل خالدا على مر الأزمان لا ينساه الناس لأنه سطر في ذاكرة التاريخ بأحرف من نور .

-لكني يا حجاج

وكما تعرفني … سأظل هنا … وهناك

وفي ألف مكانْ

وعدا … رعدا … غيما

مطرا تخضر به النعمى

وسأوقظ في موتك حتفي

وسيكبر تاريخ من جرح في كفي

من زمن مجهولْ (5 )

فالشاعر يلبس قناع " سعيد بن جبير" ويلبس  النظام الحاكم في العراق " لباس الحجاج " ، ومن خلال هذا التبادل في الأدوار استطاع الشاعر أن يرسم هذه الصورة المؤثرة لسعيد / بلند ؛ ليعطي للمتلقي في النهاية دلالة على أن الظلم مهما طال فإن مصيره الدمار ، وشهيد الكلمة / الحق إن مات قتيلا على يد جلاد فإنه خال لا محالة ، وجلاده غارق في الوحل .

وقد وفق الشاعر فنيا في تجسيد عناصر الموقف، فجعلها تتحرك وتتفاعل، كما لو كانت الأحداث حقيقية وواقعية، وبهذه الطريقة الدرامية في بناء الحدث وصياغته، تتعمق التجربة الشعرية، وتتعقد المشاعر، وتزداد الحالة الشعورية انسحاقا واحتراقا ونبضا، فيأتي التشكيل الصوري مركبا يغذيه التقابل والتعارض بين الماضي والحاضر، بين الواقع والمثال ويوجهه في حركة درامية تسير في اتجاهين متقابلين متعارضين كذلك ولكنهما ينتهيان إلى موقف تفاعلي واحد، تعبيرا وبناء.

وبهذا التصور تتعزز فكرة التكافؤ بين صوت الشاعر في القصيدة، والأصوات الدرامية الأخرى، ويتجسد التوازن النفسي والفكري داخل البناء الفني للنص، ولكن هذا التكافؤ ليس صيغة جامدة أو قانونا نهائيا وإنما يخضع لطبيعة المرحلة وخصوصية التجربة، فقد يطغى الجانب المعاصر، وتأتي صور القصيدة ورموزها حداثية، حينما يريد الشاعر أن يعبر عن حالة معاصرة وبذلك تتقلص مساحة القديم    وتتسع مساحة الجديد، وتتراجع الدلالة التاريخية القديمة , وتتولد الدلالة الرمزية الحديثة، وبالتالي فإن  الصورة الدرامية لا تصير صورة وصفية سردية قديمة   وإنما تتشكل من طبيعة جدلية ورؤية حداثية للتاريخ، وبالتالي فإن التشكيل الصوري الدرامي ليس وصفا لحدث مضى وانتهى، وإنما هو إدراك وتصور وموقف معاصر له وبالتالي "فليست هناك إذن صورة جامدة ثابتة لأية فكرة       من الماضي"(6 )

المراجع.

-------

(1) د.أحمد عبد الحي : شعر صلاح عبد الصبور الغنائي ، ص290

(2)الأعمال الكاملة : ص762-763

(3) راجع بن كثير : البداية والنهاية ، جزء 9 ، ص107

(4 ) راجع : البداية والنهاية : ج9 ، ص108

(5) الأعمال الكاملة : ص764

(6 ) د. مصطفى ناصف، دراسة الأدب العربي ، الدار القومية، القاهرة، ( د.ت ) ، ص205.

                            بلند الحيدري




Share To: