==================
على أعتابِ العامِ الدِّراسيِّ الجديد
                                              
 ما يثارُ من قضايا التَّربيَّةِ والتَّعليمِ في النَّدواتِ والمؤتمراتِ المختلفةِ وعلى شبكاتِ التَّواصلِ الاجتماعيِّ يفتحُ البابَ مُشرعًا على العمليَّةِ التَّربويَّةِ برُمَّتِها التي تحتاجُ إلى إعادةِ بناءٍ بما يناسبُ روحَ العصرِ والمرحلةَ التّاريخيَّةَ والعمريَّةَ لأبنائِنا بحيثُ يتمُّ المواءمةُ بين الشَّكلِ والمضمونِ؛ لأنَّ ما يحدثُ في كثيرٍ من الأحيانِ هو خِدْماتٌ تعليميَّةٌ وليس تعليمًا ( مختبراتٌ، صالاتٌ رياضيَّةٌ، ساحاتٌ خضراءُ، مكتباتٌ، مسابحُ، مصادرُ تعلُّمٍ.. الخ) وكثيرٌ منه غيرُ مستخدمٍ، وكأنَّه لغاياتِ الدِّعايةِ والإعلانِ لجذبِ الأهالي أو خوفًا منْ تفتيشِ الجهاتِ المسؤولةِ، والنَّتيجةُ جيلٌ لا يقرأُ ولا يكتبُ، بروحٍ أقربَ إلى الأرضِ - لا إلى السَّماء - لغيابِ الوعيِ الدّينيِّ، وتغييبِ أو تهميشِ دروسِ الفنِّ والموسيقا - وأحيانا الرِّياضة - وبصحَّةٍ لا أحسبُها معافاةً بسببِ غيابِ النِّظامِ والوعيِ الغذائيِّ الصَّحيحين حينَ تربّى هذا الجيلُ منْ أبنائِنا على ثقافةِ الاستهلاكِ، وكأنَّنا أمامَ جيلٍ فقدَ الاتِّصالَ مع ما حولَه ومنْ حولَه. 
    العمليَّةُ التَّربويَّةُ في العالمِ العربيِّ ما زالتْ تتأرجحُ ضمنَ قراراتٍ وتوصياتٍ أكثرُ ما قدَّمتْه توصيفٌ للفشلِ الذي تعيشُه الحالةُ التَّعليميَّةُ، ولمْ ترقَ إلى مستوى المشروعِ الذي يمكنُ أنْ يُوصفَ بأنَّه إصلاحيٌّ، لا بلْ إنَّها كلَّما أعادوا بناءها احتاجتْ إلى إعادةِ بناءٍ ... وهكذا في سلسلةٍ تستنزفُ الوقتَ والجهدَ والمالَ بدونِ مخرجاتٍ تعليميَّةٍ تنبئُكَ عنْ تقدُّمِ العمليَّةِ التَّربويَّةِ في بلادِنا.
قالتْ لي تلميذتي التي غدتْ محاميَّةً ناجحةً وأمّا لطفلٍ: الأطفالُ يكرهون الدَّرسَ؛ لأنَّ فيه تعبيرًا حقيقيًّا عن السُّلطةِ، ما يحتاجونه هو التنوُّعُ في الأساليبِ؛ فإذا كانَ الأسلوبُ واحدًا سيمضي الدَّرسُ ممَّلًا رتيبًا، أما إذا كانت الأساليبُ متنوِّعةً و جادَّةً تحمَّلوا قيدَ الدَّرسِ؛ لأنَّهم ما زالوا يملكون الدَّهشةَ، و السُّؤالَ الصَّعبَ و الجريءَ، وحتى تنطلقَ طاقاتُ الإبداعِ لديهم أطلقوا لهم عنانَ التَّعبيرِ والعملِ الحرِّ الذي لا يجعلُ من الغرفةِ الصَّفيَّةِ سِجنًا.
العمليَّةُ التَّربويَّةُ عمليَّةٌ متكاملةٌ يشتركُ فيها المعلِّمُ والمديرُ والطّالبُ والمنهاجُ ووليُّ الأمرِ، ويكونُ النَّقصُ فيها بقدرِ التَّقصيرِعندَ أيِّ منْ هذه الأطرافِ، وهي عمليَّةٌ لا بدَّ لها أنْ تقومَ على تنميةِ جانبِ الاعتمادِ على النَّفسِ لدى الطِّفلِ لتتبلورَ ميولُه، وبعدَ ذلك يبدأُ بالتَّركيزِ على ما يلائمُ شخصيتَه وقدراتِه، وفي سبيلِ الوصولِ إلى هذا الهدفِ لا بدَّ من المادَّةِ المعرفيَّةِ المعزَّزةِ بالأنشطةِ المختلفةِ، ولا تكونُ المادَّةُ المعرفيَّةُ ثريَّةً إلا بمناهجَ تلبّي حاجاتِ العقلِ والقلبِ معًا، وحينَ نقولُ (القلب) فإنَّنا نجنحُ إلى الجانبِ العاطفيِّ الذي يثري القيمَ التي تجعلُ من الإنسانِ إنسانًا، أعني التَّعليمَ بالحبِّ لنجني كلَّ معاني الجمالِ في مواسمِ الحصادِ.
نحنُ بحاجةٍ إلى مشروعٍ تعليميٍّ متكاملِ الأركانِ تجتمعُ فيه الرُّؤيةُ والرِّسالةُ ومتطلَّباتُ الجيلِ والمرحلةِ، وإذن نحنُ قبلَ حاجتِنا لخبراءَ أجانبَ منْ أستراليين وكنديين وسواهم، نحنُ بحاجةٍ إلى رجالٍ منْ بني جلدتِنا تتوافرُ لديهم الخبرةُ والدِّرايةُ لجغرافيا بلادِنا ومُناخِها وحضارتِها العربيَّةِ والإسلاميَّةِ بما يواكبُ ويتماشى مع جيلٍ تجاوزَ (سندريللا) و(ليلى والذئب)، ويسيرُ واثقًا نحوَ القرنِ الحادي والعشرين الذي يشارفُ عقدُه الثّاني على نهايتِه.. 
نريدُ من المناهجِ أنْ تلبّي متطلّباتِ الكونيَّةِ وليسَ العولمة، الكونيَّةُ المرتبطةُ بالجانبِ المعنويِّ المتعلِّقِ بالقيمِ، وعليه فلا بدَّ من القولِ: لقد استوعبَ المسلمون الأوائلُ الكونيَّةَ حينَ ترجموا علومَ الآخرين وفلسفاتِهم وأفادوا منها، وأضفوْا عليها منْ روحِهم وثقافتِهم الأمّ، فأصبحتْ إضافةً وثراءً، فلمْ تلغِ هويَّةً ولمْ تطمسْ خصوصيَّةً، أما اليومَ فأرى أنَّ المعادلةَ قدْ اختلَّتْ بينَ الكونيَّةِ والعولمةِ،  ليسَ فقط في الأسواقِ والملابسِ والطَّعامِ، بلْ تبعَ ذلكَ أزمةٌ في قيمٍ جرَّها التَّقليدُ غيرُ الواعي لمعانيَ كثيرةٍ مستوردة، يكفي مثلًا أنْ نرى غيابَ الهويَّةِ في الملبسِ بين جيلِ الجدِّ والابنِ والحفيدِ ذكورًا وإناثًا لنلمسَ اختلالَ الهويَّةِ، ويكفي أنْ ننظرَ في اختلافِ القيمِ بينَ الأجيالِ الثَّلاثةِ لنعلمَ الهوَّةَ السَّحيقةَ بينها الأمرُ الذي يدعو إلى مراجعةٍ طويلةٍ لما يجري حتّى نحفظَ جيلَ الأبناءِ من انزلاقٍ كلُّ ما حولَهم يغري بأسبابِه....




Share To: