بول أوستر يأخذ يد القارئ إلى العالم السفلي في مدينة خربة، بسبب الحروب والأوبئة والتحولات السياسية، أي شرور عالمنا المعاصر. ويفرش شخصيات تعيش بيننا، بنزقها، وكذبها، وعشقها، وشذوذها الروحي، وضياع أحلامها في خضم فوران المدنية الذي شرع بالتهام الجميع.
في روايته "في بلاد الأشياء الأخيرة"، يثبّت مثل لون على قماش مسميات الحياة وهي تختفي تباعا، والبؤس البشري حين يستشري وراء الواجهات الفخمة، والحذلقات الفكرية، ونظم المجتمعات التي تظن أنها تصوغ العدالة الإلهية عبر تشريعاتها، وقوانينها، وقيمها. حين كنت أقرأ هذه الرواية، في بلاد الأشياء الأخيرة، تخيلتني في مدينة بغداد. وكأن ذلك العالم القادم من وراء المحيطات هو عالمي أنا الذي عايشته أثناء خرابه وتفتته ونزقه. الجثث التي كانت تتناثر في الشوارع ذات يوم. نقص الوقود في الشتاء. السباق مع الآخرين للحصول على الحاجات. العادات المستحدثة نتيجة التنافس. الأحياء الخطرة بسبب انتشار عصابات الجريمة والقتل والتسليب. والفوضى البشرية في لجة تجلياتها. كل التفاصيل المروية مخزونة في رأسي، الا أن أوستر أعاد ترتيبها فقط. أعاد لها الحياة على الورق، ودلني إلى الزوايا التي يمكن لي أن أتناولها فيما لو فكرت بالكتابة عن بغداد.
كنت عادة ما أقرأ في روايتيه ثلاثية نيويورك وليلة التنبؤ في المقهى، وسط ضجيج الجالسين وحركة السير القادم من خلف الزجاج. أقرأ احتمالات الواقع. غرائبه. ترابط الأحداث وانقطاعها المفاجئ. الزمن الروائي والزمن الأرضي، تحمله شخصيات تشبه إلى حد ما أصدقاءنا، وأقاربنا، وندماءنا في المقهى والبار والعمل. خصوصيتها الفائقة أنها تتساءل، وتشك، وتراجع قناعاتها بقسوة أحيانا. تسائل القدر، والدين، والسياسة، وأعراف المجتمع، والبديهيات، والأفكار المتعارف عليها، سواء كانت أخلاقية، أم سياسية، أم أدبية. وكنت أقرأ وأنا في البيت أيضا، والتلفزيون يبث أغانيه ومسلسلاته وندواته، وأصوات الجيران تتغلغل في أذني من خلال الشبابيك والبالكونات وشجر الزيتون. لم أعان من تتبع مسيرة الأشياء وهي تتداعى، وتتلاشى، وتصير ماضيا غائرا في ذاكرة هشة العطب. كون الكاتب لم يفعل سوى توضيب ذاكرتي، وإعادة ترتيبها، وتنشيطها. فالتجربة المختزنة، وبعد النضج والاتساع، تسبح في ضباب وفوضى، وكان الروائي يعيد تشكيل الذاكرة كأنه رسام بارع.
هذا هو التحول إذن، فحين نقع على رواية أو نص شعري، أو حتى كتاب فكري، تتجلى براعته في قدرته على تنظيم أفكارنا. قدرته على بعث ما اعتقدنا أنه تلاشى من أشياء، ومواقف، ومشاهد، وحوارات. وهي ليست بالمهمة السهلة على أية حال. تتطلب براعة، يمكن للقارئ الإحساس بها، وتلقّيها، من بين يدي الكتّاب الكبار، معلّمي السرد من أمثال ماركيز وديستويفسكي وتشيكوف ونجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف، كافكا وهاروكامي وزافون وفيرجينيا وولف وغونتر غراس، وسواهم الكثير، ممن أضاءوا للبشرية دهاليز أرواحهم المظلمة، وساروا بهم نحو الضوء والمعرفة. براعة في تقديم رؤية انسانية تلامسك كفرد، سواء كنت تعيش في قرى الأنديز، أو في أزقة طوكيو، أو في بيت من البيوت يتوارى تحت غيضة من شجر البامبو. في القاهرة أو بغداد أو دمشق. وتتطلب معرفة عميقة بالعصر الذي نعيش فيه، وهذه المعرفة لا يمكن الحصول عليها دون اتساع. أن يكون الإنسان واسعا يحاور الآخر، يتقبله، يهمزه الفضول للنظر إليه دون وجل، دون أحكام مسبق.
رواية "ليلة التنبؤ" تشتغل على كيفية كتابة الرواية، ماهي التيمة المهمة في الحدث، وكيفية النظر إلى الشخوص، والغوص في تناقضاتهم الإنسانية، وعلاقة الكلام بالمستقبل، في ما أطلق عليه بالتنبؤ، أو الحدس، أو التخاطر. لكن أوستر يعالج هذه الفكرة عبر العلاقة ما بين حياة الكاتب ونصه. وكلاهما يتبادلان الأدوار أثناء مسيرة الحياة. فالمعالجة تتم دون فلسفة لقضية الكتابة، ودون شرح ثقافي لتلك الآلية، بل عبر تشريح ذات الكاتب، وهواجسه، وعلاقاته مع المحيطين به، أي المادة الأولية التي ستتحول يوما إلى كلمات ذات معمار فني شيد عبر قرون من الكتابة والنقد والتنظير، وأطلق عليه مصطلح رواية.
يدفع بول أوستر قارئه إلى أقرب قلم، أو كومبيوتر، لكي يبتدئ في تدوين روايته الخاصة، إذ يصل إلى قناعة تامة بأن كل سلوك، كل حوار بسيط، كل إنسان، مهما ضؤل شأنه في الحياة، يمكن أن يصبح نسيجا في قماشة الرواية. وتعتمد القضية على المعالجة، على الاتساع، على الحب الصوفي لشظايا المكان، وشظايا الروح وهي تتقلّى في فاصلها الزمني الممنوح لها. مقدرة ليست سهلة في حال من الأحوال، إلا أنها إذا ما وجدت تربة خصبة لدى القارئ، يمكنها أن تنبت وتورق وتعطي ثمارها مباشرة. وهذا من الأشياء النادرة. نادرا ما يجد المرء كاتبا يدفعه، حال قراءته، إلى اكتشاف جدوى تجربته، وأهميتها، وكيف تتحول بسهولة إلى كلمات تلامس العقل والقلب. ويكتشف أن الإنسان هو الإنسان. وهو مجبول على التناقضات، والحيرة، والتشظيات، الخير والشر، في تجاور يصعب تصنيفه أو نمذجته. وقد تكون تلك صفات إنساننا الحديث ذاته. معارف متشعبة، وأساليب عايشها الذهن، وحيوية لالتقاط المهم، والمميز، من شظايا الجمل والأفكار، بالضبط كما يلتقط بول أوستر مهملات الأشياء كي يبني عمارته الروائية.
Post A Comment: