محمد الدسوقي
--------------------------------------------------------------------------
النزعة الدرامية بين الواقع المعاين والانفعال به
مسلسل - الرحايا – نموذجا
.
إذا كان من الأهمية بمكان أن نطلق مصطلح التتر بمعناه الدلالي على كافة أبعاد الدراما ، فإنه من الواجب تحديد العلاقة الحميمة بين التتر والدراما ، فإذا كانت الدراما مهمتها نقل الواقع المعاين ، فإن التتر مهمته الإنفعال به  والتعبير عنه ، أي أن التتر سينقل الرؤية إلى الرؤيا ، وبهذا المفهوم وحده تتحول الدراما إلى شعر ، إلى مضمون  تمتزج به امتزاجا كبيرا ، بحيث نجد المحسوسات والتفاصيل وقد تحولت إلى خلاصة التجربة الدرامية وجوهرها الأصيل ..وهو ما تحقق في تتر مسلسل " الرحايا " والذي  تدور احداثه  حول رجل صعيدي بنى نفسه بنفسه ، يدعى محمد أبو دياب (نور الشريف) محبوب من أغلب أهل بلدته الذين يعيشون تحت إمرته لكنه محسود من بعضهم , يتعرض للغدر من أقرب الناس إليه , فيشك في أن واحدا من أبنائه قتل شقيقة ، وهو الحدث الأبرز في المسلسل ، ولهذا يأتي تتر المقدمة هكذا :
قلبي على ولدى انفطر
و قلب ولدى عليا حجر
يا معلق الربابة أمانه
تقول آه و عذب الوتر
ده مهما كان احنا بشر .
بهذه المعاني التي التقطها ونسجها الشاعر في كيانه أولا ، ثم أخرجها ثانية محملة برؤيا معينة ، يُغيّب فيها الشاعر تفاصيل الواقع ، بحيث يصير التعبير اللفظي أشد حضورا لمخاطبة المشاعر والأحاسيس ، وهذه من تجليات صناعة التتر الغنائي ، وقد تشكلت الصور الواقعية على نحو يكسبها قيمة تعبيرية خاصة جدا
عاند معاك الزمان و اتاري انك العِندى
ياللى مصاحبنى فى عدم صبرى و فى جَلدى
ولا لقيتك فى يوم لفدى - يا بوى - ولدى
لو ترجموك يا الأنين يلقوك تقول ولدى
قدر يا واد قلبى قدر
النار أولها الشرر
يا معلق الربابة امانه
قول آه و عذب الوتر
ده مهما كان احنا بشر
وكما نرى فإن عناصر الواقع ( الدراما ) باتت مجردة ، وتقريرية ، وواضحة ، ولكنها أيضا مغلفة ومستترة إلى حد ما ، أو مغايرة ، وأكثر امتزاجا بالأحاسيس التي ينبض بها فلب الشاعر ، وتفيض بها روحه ..
بين الضلام و النور
بين المسا و الضحى
شمس الزمان بتدور
يا جيّه يا مرّوحه
يا ابو الجناح مكسور
كان حلمي بس انصحك
و الجرح بيدور يدور
و يرجع لقلب الرحا
قدر يا واد قدر
النار اولها الشرر
يا معلق الربابة أمانه
امانه تقول آه وعذب الوتر
ده مهما كان احنا بشر .
أريد ان أقول  أن التتر بداية أو نهاية -  كما هو وليد الدراما كذلك هو تجربة الشاعر ، فالتتر يعكس رؤية كاتب الدراما ، وهو احتفاء عذب بالحدث الدرامي ، وهنا تكمن حاجة الدراما إلى التتر لإحياء ما بداخلها   من مشاعر إنسانية وأحلام ورؤى ..
فرحنا بيها ومليناها عيال وحريم ..
واتاريكي  يادنيا بحر واحنا كبشة ريم
أنا غلبت الجبل واسألوه عنى ..
واتارينى شمسة شتا نعس عليها الغيم ..
يا ولدى
ولدى وجرحك يُشق
قلب الجبل راح يُطق ..
ضاقت عليا الطرق ..
ولدى قتل ولدى  !
عسى  القلوب فيها سر
والسر لو طير يفر
وسط الخلايق  يقر
يسكت عشان ولدى ..!
دا  السر ملو الكون
وكل واحد لون ..
عاقل على مجنون ..
ضاع وسطهم ولدى ..
حجر الرحايا يا خال
ملوش حبيب وعزول
يطحنها نسا ورجال
وزى ما تقول قول
ميُقَفش من الدوران
عشان فلان وفلان
اتملى يا إنسان
وانت  يا شاعر قول
واحكِ  على ولدى ..
إن أهم ما يمكن تمثله واستخلاصه من التتر السابق ، في ضور واقعية الدراما وحركتها ، وفي ضوء ما تدفع به تجربة الأبنودي الشعر درامية ما يلي :
أولا : تنامي حركة الدراما بين ما هو طبيعي وشبيهه ..  كالدنيا التي تشبه البحر ، أو كالناس الذين يشبهون كبشة الريم ، وفي هذه الجدلية بين الطبيعي وشبيهه تتكون اللوحات المتكاملة للبشر بأفعالهم وأحلامهم .
ثانيا : بروز البعد التشخيصي وذلك بتحويل  الواقعي المُشخص إلى تشخيصي معنوي
( حجر الرحايا يا خال
ملوش حبيب وعزول
يطحنها نسا ورجال
وزى ما تقول قول
ميُقَفش من الدوران
عشان فلان وفلان)
وهو إضفاء صفة  المادة على الفكرة  - تجسيما ومفارقة -
ثالثا : جميع الصور الدرامية تقريبا جاءت غير تقليدية ، دفعت المتلقي للإحساس بالمأساة التي يعيشها بطل المسلسل ، من خلال ملمح التصوير القائم على التشبيه دون إغفال ملامح التصوير الأخرى القائمة على الاستعارة والكناية والمجاز ، وهو ما يُظهر للمتلقي الفرق بين الدراما ودلالاتها ، وهو ما يمد مخيلة المتلقي بكل ما هو مثير ، ناهيك عن اللغة الضدية / التقابلية  التي صاغها الشاعر ببراعة ..
ولدى وجرحك يُشق
قلب الجبل راح يُطق ..
ضاقت عليا الطرق ..
ولدى قتل ولدى  !
عسى  القلوب فيها سر
والسر لو طير يفر
وسط الخلايق  يقر
يسكت عشان ولدى ..!
الاستراتيجية الضدية أو التقابلية هنا تظهر للمتلقي حالة الأب المكلوم  ، فالقلوب ، الطير ، الخلايق /  يقابلها السر ، يفر ، يقر ، وهو مدى واسع ومتنامي  يغدو فيه الزمن مضارعا ، أما عسى الفعلٌ غير المتصرّف ، فهي من أفعال الرجاء و تعمق إحساسنا بالذات المنهكة  وواقعها الأليم  والحيرة التي تعيشها
رابعا : حضور الذات الشاعرة ، وهو ما يميز تترات الأبنودي ، بحيث لا  يُشعر القارئ أن التتر مجرد تعليق  أو تعبير  عن الأخر ، " فالتتر الأبنودي "  إن صح التعبير نص ذاتي ، أو  نسخة بالمعنى الحرفي للحالة الشعورية للشاعر ، تعويذته الخاصة  : ..
حجر الرحايا  يا خال
ملوش حبيب وعزول
يطحنها نسا ورجال
وزى ما تقول قول
ميُقَفش من الدوران
عشان فلان وفلان
اتملى  يا إنسان
وانت  يا شاعر قول
واحكِ  على ولدى ..!!
خامسا : الاستعارة  باعتبارها ظاهرة  لغوية يتم فيها استخدام لفظ عوضا عن اخر على أساس التشابه  بين طرفيها ويمكن تقسيم الاستعارة  الى نوعين – هنا – أولهما الاستعارة المبدعة ، والاستعارة العادية ويمكن التدليل عليهما بهذا المقطع  الشعري ...
حجر الرحايا  يا خال
ملوش حبيب وعزول
يطحنها نسا ورجال
ميُقَفش من الدوران
عشان فلان وفلان
حيث تعتبر الرؤية التقليدية  لحجر الرحايا أنها لا تطحن البشر ، وانما تطحن الحبوب وهنا يظهر التناقض ، بين الاستعارة المبدعة  والاستعارة  العادية ، ولحل هذا التناقض يمكننا العودة إلى الأصل المنطقي ومحاولة رؤية التشبيه المتخفي تحت الاستعارة كقولنا " أن المنايا حين تأتي تكون مثل الرحايا التي  تطحن كل شيء دون تمييز "  ورغم أن الاستعارة تدهش المتلقي إلا أن شيوعها في شعر أو في تترات الأبنودي جعلته  يبلغ معها إلى الحد الذي لا يشعر  المتلقي  بوجودها أو بكونها استعارة  ، وباتت أمرا منطقيا وعاديا ..

                       عبد الرحمن الأبنودي




Share To: