========================
 من نافذة اختناقها ، تطلّ على الزّقاق الضّيق ، بشغفٍ جنوني، تتلقَّفُ تلهّفه، قلبها الغضّ يخفقُ بصخبٍ ، ولعينيهِ  المتوسّلتينِ تطيّر ابتسامة من دمع  .  لكنّ وجه ابن عمهّا " رضوان " المقيت ، يبرز فجأة أمام غبطتها فتجفلُ  وتصفعها  حقيقة  خطبته  لها  ،  ترمق  خاتمها الذّهبي ، الذي يشنقُ  أحلامها  بازدراء  ،  ترتدُّ  نحو انكسارها ،  تغيب  مخلِّفة  وراء  النَّافذة حسرة في قلب " فتى النَّافذة " .
        بعدَ توسّلاتٍ مذبوحةٍ  ،  وإلحاحٍ مستميتٍ   ، تشفق الأمُّ  " أمينة " على كآبة  ابنتها " سميرة " ، فتفرجُ عن جناحيها لبعضِ الوقت .
   يبرقُ قلبها من الفرحةِ ، يذوبُ جليد الرّوح ، وتسري في الأوردةِ مراكب الأماني البيض ..  سيلتقيان .. وتتشابك  الأصابع  بارتعاشها  ،  تحتفي بخطواتهما الأرض ، تحتضنُ الدّروب فراشات بوحهما والغيوم البيضاء تطال جنون القبلات .
أشهر مضت على إعلانِ حتفها ، خطوبة "رضوان " ابن عمَّها لها  ،  وهي قابعة خلف كثبانِ أحلامها  ،  مع خاتمها اللعين  ،  تراقب باختناقٍ حادٍّ ،  تحرُّكات " فتى النَّافذة " القلقة .
  ـ  أتريدينَ شيئاً من أمِّ " زينب " ؟.
تردُّ أمَّها " أمينة " ، المنهمكة بترتيبِ قبرها الأثير :
  ـ  بلِّغيها السَّلام .. لكن إيَّاك والتّأخر .. اليوم موعد مجيء عمّكِ من " حلب " ، وممكن أن يأتي معه خطيبكِ " رضوان " .  
  تندفعُ نحو الباب ،  كسحابةِ شوقٍ ،  ترقصُ خلجاتها على إيقاعِ الانعتاق ،تسبقها عصافير التَّوق  ،  متقافزة فوقَ أحجارَ الطّريق المرصوفةِ .
        ومن بعيدٍ تلمحُ فتاها  " إبراهيم "  يتتبَّعها ، فيشتعلُ الصَّهيلُ  في نبضها  ،  يرفرفُ دَمُ إشراقها  جناحاها يغرّدانِ ، وهي تقاومُ رغبةً في الالتفات :
  ـ   مجنونة . . ماذا  لو افتضح  أمرك  ؟. .  ستذبحينَ كخالتكِ  " سعاد " ،  ارجعي .. ارجعي .
     تنأى بارتباكٍ شديدٍ  عن الحارةِ ،  تَتَغَلْغَلُ في أزقَّةٍ متطرِّفةٍ الخوفُ يثقلُ قدميها ، أنفاسها تزعقُ برعبٍ :
  ـ  ارجعي .. ارجعي .. قد يصادفكما قدوم ابن عمَّك " رضوان " مع والده عمَّكِ ، زوج أمّكِ .
    تتباطأ حائرة  ،  وبعيونٍ متلصّصةٍ تمسحُ المكانَ من حولها تلتفتُ ،  تتمهّلُ ،  لتقصّرُ المسافة  ، بينها وبين الحبيب الحقيقي " إبراهيم " .
   يتصاعد الخوف مشوباً بالحذرِ في قلبِ العاشقِ المتيّمِ " إبراهيم " ،  تنبتُ  في  قلبهِ  أنيابٍ  شرسةٍ  ،  مدركاً خطورة المغامرة ، يمسك خطاهُ عن حبيبتهِ " سميرة " :
  ـ  لن أقامر بها وبي ، لن أشاطرها جنونها ... ماذا لو طاوعتها
 ؟!..  سيقولُ أبي : فضحتنا يا كلب ، جلبتَ لنا الدَّمار ،ولأهلها  العار ،  ثمَّ  هل تجدنا  قادرينَ  على مجابهةِ  عائلةِ  " الرَّضوان "  ؟! . . عشيرتهم كبيرة  ، ونحنُ عائلة  بسيطة  وصغيرة
  سيقتلونكَ  ،  خطيبها " رضوان " وهو ابن عمِّها ،  ووالده متزوّج من أمّها ، هو بحدِّ ذاتهِ حيوان متوحّش  ،  فماذا تَتَوقّع منه ،  حينَ يعلمَ بعلاقتكَ مع خطيبتهِ ؟!.. سيقتلكَ ،  ونحنُ لن نموت من أجلكَ ، ومن أجل قلبك الطَّائش .
         بجوارحٍ مشرئبَّةٍ متيقِّظةٍ لوصولهِ ، تتخيَّلُ ما سيدورُ بينهما من حوارٍ :
  ـ  مرحباً .
  ـ  أهلاً .
مُتَحَرّراً من تلعثمهِ ، حاثَّاً خطاهُ بمحاذاتها :
  ـ  كيفَ الأحوال ؟.
وبنزقٍ تضعُ " سميرة " ، حدّاً لمقدِّماتِ " إبراهيم " :
  ـ  " إبراهيم " ،  يجب أن نجدَ حلَّاً .
     أفاقتْ  " سميرة " ،  من شرودها  ، على تأخرهِ  ، شارفتْ على تخومِ  البلدةِ  ،  بجرأةٍ تستديرُ ،  فتصطدمُ بخيبةٍ متوحِّشةٍ  ، تنقضُّ على جناحيها الأبيضينِ ، حينَ لا تبصرُ أحداً يتعقَّبها .
   ينتحرُ بريقُ عينيها ، أغصانُ بهجتها تَتَقَصَّف ، يجفُّ نسغ الانعتاق ، وتتهشَّمُ مرايا السَّماء ، فوقَ قفار روحها بينما تجأرُ أعماقها النَّازفة :
  ـ  آهٍ " إبراهيم " لماذا الفرار ؟!.
     في زقاقٍ مُتَهَدّمٍ  ، تلمحُ الشَّمسُ الأفلةُ ،  فتى النَّافذةِ العاشق  " إبراهيم "  ،  لاهثاً  بانهزامهِ  ،  يجرُّ غُصَّته بمشقّةٍ ، وفي وجدانهِ الجريح تتعاركُ الأسئلة :
  ـ  سامحيني يا " سميرة " ... لن ألحقَ بكِ العار . أهل بلدتنا لا يعرفونَ الرَّحمة  ، ليتنا يا " سميرة " وُلِدْنا على كوكبٍ آخر .
     تعودُ " سميرة " مضرَّجةً بخيبتها ، تعرجُ على قبرِ صديقتها " زينب " ،  كاتمة أسرارها ، تحملقُ الصّديقة في أخاديدِ الدَّمع  في  وجهِ  " سميرة "  ،  وتشهقُ بالسؤال :
  ـ  هل التقيتما ؟!.
تندُّ عن أوجاعِ " سميرة " ،  صرخة مسكونة بالموتِ :
ـ  انهزم !. 
      تَتَكوَّرُ الصّبيَّتانِ  ،  المنكسرتا  الأجنحة ، تبكيانِ أحلامهما  بضراوةٍ  ، ذليلة تنكفئُ الشَّمس، وبفظاظةٍ ينبثقُ ليلٌ من عويلٍ أسودٍ ، يُسربلُ حلمَ المدينة *.




Post A Comment: