.                           أبو بكر العيادي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رائعة نجيب محفوظ 
علاقتي بأدب نجيب محفوظ بدأت عام 1964، يوم نصحَنا الشاعر الميداني بن صالح، رئيس اتحاد الكتّاب التونسيين الأسبق بقراءة رواية "اللصّ والكلاب"، وكان المرحوم يدرّسنا مادّة التاريخ بمعهد ابن شرف، ويفتح كعادته أقواسًا ليحدّثنا عن طرائف الأدب والأدباء، أو يقرأ علينا مقاطع من ديوانه الأوّل "قُرط أمّي". ولمّا كانت ميزانية العائلة لا تسمح إلا باقتناء المقرّرات، أقنعت أمّي زورًا بأن هذا الكتاب من بينها، وسوف نُمتَحَنُ فيه عمّا قريب، فلم تجد المسكينة بدّا من إمدادي بمائتين وثلاثين مليمًا هي نصف ما كان يتقاضاه والدي يوميّا، لأشتري كتابا جديدا على غير عهدي بنفسي. 
انشددت إلى الكتاب أقرؤه بنهم، وأنا مأخوذٌ بمعاناة سعيد مهران، ذلك البطلِ المتمرّد الخائب، متحمّسٌ لطلبه الثأر، متألّمٌ لانكساراته، ناقمٌ على كلّ من تنكّر له أو خانه، كرؤوف علوان رمز النفاق والانتهازية، ونبوية زوجته التي اغتنمت حبسَه لتتزوج من مساعده عليش سدرة وتحتفظ بابنتهما سناء، متعاطفٌ مع من أرعاه سمعه مثل الشيخ المتصوّف علي الجنيدي، أو فتح له حضنه مثل نور المومس التي جازفت بنفسها لمساعدته حتى آخر لحظة، فتبدّت أشرف من أدعياء المروءة والشهامة. 
وعجبت كيف أتعاطف مع خرّيج سجون متأهّب للقتل، لا بل كنت أتمنى أن يُفلح في مسعاه، وأُصاب باستياء عميق كلّما أخطأ المرمى. والسبب أن الكاتب برع في تصوير أدقّ خلجاته ليبين مدى الظلم الذي حاق به، والغضب الذي يجمح به كي ينتقم ممن خانوه، ومن النخب التي تنكرت لوعودها، لعله يحرّك سواكن مجتمع انهارت قيمه. فسعيد مهران لم يكن لصّا يروم السّطو والنّهب، بل هو مثقف شاء له حظه النكد أن يقع وراء القضبان، وغايته لم تكن سوى تطهير المجتمع من الخونة وعديمي الضمير. كان يقول لحظة خلوّه إلى نفسه، وقد أزمع أمرا لن يردّه عنه سوى الموت: "بهذا المسدّس، أستطيع أن أصنع أشياء جميلة، ولكن على شرط ألا يعاكسني القدر، وبه أيضا أستطيع أن أوقظ النيام، فهم أصل البلايا. هم خلقوا نبوية وعليش وروؤف علوان." إلا أن القدر أمعن في معاكسته، فانتهى محاصرا من جميع الكلاب، كلاب الشرطة وكلاب المجتمع، مخلّفا في نفسي حسرة في مرارة العلقم.  
انبهرت بالمضمون إذن، وألفيت نفسي في الوقت ذاته منبهرًا بهذا الأسلوب الذي لم أعهده فيما سبق أن قرأت بالعربيّة، وهذه اللغة التي تسمّي الواقع بمختلف تجلياته، وتحفر في المعيش اليومي تنقل خطابه في شيء من التهذيب، وتسبر خبايا الشخصيات تستطلع بعمق ما يعتمل داخلَها من وساوس وهواجس، وخوفٍ من واقع مُرّ وغدٍ غير رحيم.  هذه الكتابة المُطْمِعة، على رأي القدامى، المتجردة من أساليب البلاغة القديمة، أغرتني باحتذائها، وأدركت، ولم أكن قد تجاوزت الخامسة عشرة، أني مُقدِمٌ في غد أو بعده على الكتابة السردية، لأن ما يصوّره محفوظ كنت أراه رأي العين في سلوك نخبنا السياسية وأوضاع مجتمعنا، وتهافت خطاب دعاة الاشتراكية والتقدم، وفرحة الحياة التي لم ير منها الشعب غير البؤس. 
من تلك الرواية، التي أعتبرها أروع ما كتب محفوظ مع "ملحمة الحرافيش"، تعلّمت فلسفة الغضب، وسبل صياغتها في قالب فنّي، فالرواية كما يقول ألبير كامو هي تصوير حيّ لفلسفة في الحياة.






Share To: