اذا كان الأدب الآسلامي ، تعبيرا جماليا مؤثرا عن التصور الإسلامي الموجود ، فكيف يتم الربط بين هذين الركنين الأساسيين ، ( التعبير الجمالي المؤثر ) ، و ( التصور الإسلامي الموحد ) ، ماهي طبيعة الخيط الذي سيشيدهما بعضهما الى بعض ، ويمكن الاديب المسلم من تقديم أعماله المبدعة ، على المستويين الجمالي والعقدي معا .
إنه ( الآلتزام ) .
والالتزام ليس نظرية جديدة ، لكي يقال أننا ندعوا إلى الأخذ عن غيرنا ، ورغم أن الأخذ عن غير المسلمين ليس خطأ بحد ذاته على الاطلاق ، بل العكس هو الصحيح ، اذ الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها ، كما يحدثنا رسولنا محمد ص ، رغم هذا فإن الدعوة إلى الالتزام ، واعتباره الوسيط الضروري ، والطبيعي في الوقت نفسه بين الجمال والفكر ، بين الابداع والتصور ، هذه الدعوة انما تستمد مقوماتها من القرآن الكريم نفسه ، ومن اقوال الرسول الصحيحة قولا وعملا ، ومن السوابق التاريخية لآل البيت والصحابة الرواد ومن تبعهم بآحسان .
دعوة صريحة :
أننا نقرأ في كتاب الله : * والشعراء يتبعهم الغاوون ، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون ، وأنهم يقولون مالا يفعلون ، الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وذكروا الله كثيرا ، وانتصروا من بعد ماظلموا ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون * .
فتجد أنفسنا إزاء دعوة صريحة واضحة للالتزام ، فهاهنا يبدو الشعر الذي لايلتزم خط الايمان والحركة والفعل ، شعرا كاذبا ، شعرا لايملك ايما ثقل نوعي ، وشخصية مستقلة ، وأصالة ذاتية تجعله يقف شامخا في مواجهة الناس ، حاضرا في عقولهم وارواحهم وشعورهم ، شعرا يبلغ من تفلته من الرؤية العقدية ، وهروبه من القضايا الأساسية التي تهم الانسان ، ان يخف ويخف حتى تطيش به الموازين ، وحتى ينتقل من مكان الى مكان دونما توجه محدد ، وهدف واضح ، لايستقر على حال ، ولا يحفظ لقيمة من القيم حرمتها وديمومتها .
هو كقطعة الطين التي لاتملك ثقلا ، والتي تجرفها حركة الامواج ، دونما إرادة منها ، ذات اليمين وذات الشمال ، شعرا كهذا قد يمدح اليوم ماكان قد هجاه الامس ، وقد يهجوا غدا ماكان قد مدحه اليوم ، ذلك معنى ان شعراء كهؤلاء * يهيمون * ، * في كل واد * .
ذلك الحصان الجموح :
ان الشعر حصان جموح ، لن يسلس قياده الا للقلة الفذة ، انه تدفق عفوي يند من سيطرة العقل وأحكامه ، تخلق ذاتي يجي من وراء ابواب الرسم والإرادة والتصميم ، انه عالم بذاته ولذاته ، ومن ثم قد لانستغرب اذا طالعنا رأي سارتر ، بان الشعر عطاء غير ملتزم ، وبقدر مايتاح الالتزام في ساحة النثر ، فإنه في ميدان الشعر يصعب ، بل يستحيل .
والقرآن الكريم يطرح المسألة من زاوية اكثر موضوعية وشمولا ، انه يؤكد على أن التجربة الشعرية هي تجربة هيمان غير عقلاني يتحول ، دونما ضابط او مبرر ، من مكان الى مكان ، ومن موقف الى موقف ، فهو غير ملتزم ابدا الا ان يأوي الى ساحة الايمان .
والشعر الاصيل ، كواحد من الانواع الأدبية الرئيسية ، هو الشعر ذو الشخصية ، الشعر الذي يحمل وظيفة كبيرة ، ويدعوا الى فكرة كبيرة ، ويدافع عن عقيدة كبيرة ، والا فإنه الهيمان ، والتفكك ، والتبذل ، والانحلال .
شعر النزوة وشعر الفكرة :
ويستطيع المرء ، بمجرد إلقاء نظرة على الشعراء عبر تاريخ البشرية ، ان يلتقي بعدد جم منهم ، ماكان شعرهم بأكثر من نزوة عابرة ، وصدور عن رؤية موقوتة ، وامتداد لمصلحة قريبة ، لقد هز كثير من هؤلاء مستمعيهم واطربوهم ، ولكنهم فقدوا بمرور الوقت قدرتهم على التأثير ، لان الشعر القدير على التأثير الدائم والحضور والتواصل ، هو الشعر الذي يحمل الافكار الكبيرة .
حين يغدو الابداع فعلا وسلوكا :
وهكذا توجه القران وآياته ، حملتها التي لاهوادة فيها ضد الشعراء ، ولكنها ماتلبث ان تستثني منهم ، أولئك الشعراء الملتزمين * الذين آمنوا وانتصروا من بعد ماظلموا * ، هنالك حيث يغدو الابداع فعلا وممارسة وسلوكا .
انه من هندسة الشاعر المؤمن ، المرسومة لكلماته وتعابيره وافكاره ، ومضامينه وصوره واخيلته وتراكيبه ، من قدرته على تطويع التجربة المتدفقة من وراء الوعي والشعور والتعقل ، من تمكنه من لي عنقها واستخدامها لما هو اكبر ، رؤيته العقدية الشاملة ، وايمانه العميق ، من هنا يبدو تألق الدور ، الذي يؤديه ليس على مستوى الشعر الاسلامي وحده ، بل على مستوى الشعر العالمي كله .
الدم الذي يفجر في الشرايين :
ان الآيات القرآنية الآنفة ، تتضمن دعوة صريحة واضحة للالتزام ، ولكنه يتوجب أن يكون التزامات مرنا ، والا فإنه القيد الذي يغل العمل الأدبي ، والجدار الذي يقف في مواجهة الابداع ، والذي يميل بالمعادلة الأدبية عن سويتها المطلوبة ، ويجنح باتجاه التقرير الفكري على حساب القدرة الإبداعية .
انه يتوجب أن يكون الالتزام عفويا ، متساوقا ، منسابا ، وألا تقوم علاقته بالابداع الفني ، على القسر والتكلف والاكراه ، وألا تعترف بالتقريرية أو المباشرة ، وان يكون الأديب وسيطا بين الوجود والتعبير ، يقف في موقع الوفاق والتناغم ، الذي يحيل كل شي الى لحن جميل .
Post A Comment: