يحتفل المسلمون هذه الأيام بمولد الرسول الأعظم محمد (ص) على روايتي ال (12 أو 17) من ربيع الأول، وتتزامن الاحتفالات مع (حملة كراهية) ليست الأولى ولا الاخيرة التي تحاول الاساءة الى شخص النبي الكريم، وهي في حقيقتها (كراهية) تستهدف توجه عام، وقطاع واسع من البشر، وبمناسبة المولد الاغر.. أبارك للانسانية جمعاء هذا الحدث (الاعظم) و (الأكرم) و (الأهم) ضمن سلسلة الوقائع الوجودية للوجود بأكمله، وأشير الى الامور الآتية:

- يتبنى أهل المعارف الربانية العليا رؤية مفادها، أن هناك ولادتين للنبي الاكرم (ص)، الولادة الظاهرية المعهودة، وهي التي نتداول في الحديث عن سيرة النبي والتي يشار إليها بانها إما في الثاني عشر او السابع عشر من ربيع الاول، والتي تمثل الولادة البايلوجية، وأما الولادة الاخرى، وهي الولادة التنزلية او التحققية او الصدور الاول او الفيض الاول او أول الدائرة او ولادة المعنى او مبدء النور... الخ من التسميات التي تشير الى ان هناك ولادة واعظم سبقت هذه الولادة، بل سبقت الوجود بأجمعه، والتي تتحدث، ان عالم الامكان والوقوع، بدأ بالوجود المحمدي المبارك، فهو الصادر الاول، والعقل الاول، والعقل الاكمل، وسر الوجود الاعلى، وحقيقته وروحه العظيمة سابقة على كل الوجود، وهذا التسلسل، يتضمن اسبقية زمنية واسبقية شرفية واسبقية فلسفية عللية، وهي ليست أمراً معنوياً اعتبارياً، بل هو حقيقة الحقائق، وأوجد الوجود.
وبحسب متابعتي، ان هذا الفهم والرؤية (وهو ما اتبناه واقول به)، يمكن تفسيره بأحد تسبيبين او بكلاهما معاً (وهن رؤيتي الشخصية)، الاول، ان هناك حديث قدسي مهم، ويوجد شبه اجماع على قطعية صدوره ومضمونه، يقول (إنما خلقت الخلق لكي أعرف)، وبهذا الحديث تظهر علة الخلق، والمعرف هنا لا تعني انه جل وعلا مجهول والخلق هم الذين يعرفونه، وانما وجوده الاجل الاعلى فوق مستوى ادراك ادوات المعرفة، وممنوع عمن سواه، ولا سبيل الى معرفته صفاته واسمائه إلا من خلال النظر في تجلياته إيجاده، وهو الخلق الذي خلقه، ولا شك في ان هذا الايجاد الذي يشير له ويدل عليه، يتسلسل من حيث الظهور والخفوت او من حيث مراتب الاكملية بناء على مستوى قابلية القابل، فعلة النقص في الوجودات التي ليست لها قابلية استلام تمام الفيض واظهار تمام النور، وعلى هذا الاساس، يكون النبي محمد (ص) هو الاسبق في تحقيق (لأعرف)، اي انه انصع واجلى واوضح مرآة عكست النور الالهي الاعظم، وبما أن تسلسل الوجودات من حيث قدرتها على تحقيق هدف (لأعرف) تسلسل تنزلي ظهوري إظهاري، فعليه يكون النبي (ص) الظهور الاسبق والاكمل والمتقدم رتبة، وهنا عندما نتحدث عن الظهور النبوي، لا نتحدث عن الجسد المادي بل الحقيقة المحمدية الكبرى، وأما التسبيب الثاني، الذي يعلل اسبقية النبي الوجودية، فهو التسبيب الذي ينطلق من الضرورة السننية نسبة الى السنن الكونية، فكمال النبي الذي نعتقد فيه انه (اكمل واتم واعظم الوجودات على الاطلاق، وهو الخاتم لما سبق والفاتح لما استقبل، وهو سيد الانبياء والمرسلين)، يقتضي ان تكون لحقيقته الكبرى، ابعد مدى زماني من حيث الاسبقية والاشملية، وكذلك اول صدور تحققي من حيث الاشرفية والرتبية، ولهذا هو الاول في سلم الصدور، وهذه الأولية والأولوية، هي شرفية وحقيقية في ذات الوقت.
ان هذا الفهم لحقيقة النبي الاكرم (ص) يجعل الحديث عنه متعالياً عن المفردات التقليدية في تدوين السيرة، ويعطي فهماً واضحاً للمراتب المعنوية العظيمة التي ذكرها له القرآن الكريم، ويصبح قوله تعالى (وإنك لعلى خلق عظيم) صحيحاً سواء قرأناه  (خُلِق أو خَلْق)، فهو عظيم في كلا الصورتين، ويليق به ان يكون (خَلْقه) عظيماً.

- يأنس معظم الشراح والمفسرين الذين يتناولون وصف النبي (ص) الاهم (حبيب الله) بالمنظور المرتكز في الأذهان عن علاقة (المحب بمحبوبه) وهي تفسيرات تبقى قاصرة في ادراك الصورة الحقيقية لهذه العلاقة والمعطيات التي تتبعها، ولكنها في الحقيقة اعظم واكبر من كل هذه التقريبات، فتخيلوا معي اننا استعرضنا علاقات الحب النقي الطاهر في تاريخ الانسانية، وتم ترتيبها من حيث اكمليتها وجمالها، فمن الصعب ادراك الصورة التي تتربع على عرش هذا الهرم، وهنا نتحدث عن علاقات الحب البشرية، فكيف الحال في علاقة حب طرفاها (الله جل وعلا) و(الحقيقة المحمدية العظمى)، وهو يرتب هذا الحب درجات من القرب والالتصاق والرعاية والعناية والمعرفة والاهتمام والتعلق، لا يمكن للعقل البشري القاصر، ان يتصورها، كما ان هذه المحبوبية، تدعم وتؤيد، ضرورة ان يكون محمداً هو الصادر الاول.

- يورد القرآن الكريم في سورة الجمعة ملخصاً مكثفاً لسبب البعث النبوي ((هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)، ويتضح من الآية المهام الرئيسة المرتبطة بالنبي (ص)، والمتمثلة ب (يتلو عليهم آياته، يزكيهم، يعلمهم الكتاب والحكمة)، وهي مفردات تقتضي فهماً عميقاً لادراك طبيعة المهمة التي تتناسب مع عظمة المبعوث، فلاشك في ان التلاوة هي لا تعني القراءة التقليدية على مسامع الحضور، كما ان التزكية هي فعل اعمق واعلى رتبة من التنظيف والتطهير، وعليه لا بد ان نتصور ما ينبغي ان يفعله النبي لتحقيق التزكية، كما نعرف، ان الذين نال شرف التزكية ليسوا كل الذين ادركوا النبي وبلغتهم تلاوته، ثم هناك رتبة اعلى من التزكية، ومهمة اخطر، وهي مهمة تعليم الكتاب والحكمة، ومما لا شك فيه، ان الذين نالهم شرف تعلم الكتاب والحكمة دائرة اضيق، فهذه المهمة تلخص مستويات الانتفاع من النور المحمدي العظيم، فهناك خلق وقفوا عند رتبة تلاوة الآيات، وخلق عن رتبة التزكية وخلق بلغوا رتبة تعلم الكتاب والحكمة، لذلك فإن مقياس تمثلات الاشخاص والاتجاهات للبني ولبعثته يكون على هذا الاساس من التدرج، فالاحق بالنبي والاقرب إليه والاصدق اتباعاً، هم الذين بلغوا معه رتبة تعلم الكتاب والحكمة، والكتاب هنا لا يعني القرآن الظاهري، بل هو سجل المعارف والحقائق الالهية التي تمثل روح الآيات الظاهرية، والتي اشير لها في توصيف (في أم الكتاب).
هذا الفهم للمهمة النبوية ودرجات الاتباع والتبعية، يعيد تعريف فكرة الاقرب والابعد، والاكثر تمثيلاً للنبي (ص)، وبه يصبح تقسيم مسار الجماعات المرتبطة بالاسلام والحاملة له، تتنافس في مستويات اخذها من النبي ومن بعثته، ولا قيمة للمدعيات اللفظية، والتشدقات الكلامية.

- ان حملات الكراهية القديمة الجديدة، وإن ظهر بعضه معللاً بالجهل بحقيقة الاسلام والنبي الاكرم، ولكن في حقيقتها الاصلية، هي توجهات خط الشيطان المنظم والمرتب، والذي لديه رؤية عميقة في هذا العداء الوجودي، ولا بد من فهمها في هذا السياق، كما ان خط النفاق الذي ساهم في طرح امور وقضايا شكلت بلبلة مناسبة، يتم استغلالها بعناية من قبل خط الشيطان، فهناك تحالف وتخادم قديم بين الخطين، وعليه لا بد من تحري افعال خط النفاق الذي اشتغل على افتعال الثغرات والهنات المدعاة زوراً على النبي (ص) والاسلام الحق، وان مسؤولية المواجهة لا بد ان تبدأ من مواجهة خط النفاق أولاً، فهو خط يتسربل بلباس الاسلام ويندس بين صفوفه، وهو الاخطر والاكثر ضرراً.

ختاماً أسال الله العلي القدير ان يجعلنا ممن سمع تلاوة الآيات وتزكى بالطهر النبوي وتعلم من الكتاب والحكمة، وارجو ان تنال هذه الحروف البسيطة نظر ورعاية سيدي ومولاي رسول الله (ص).. وقدراً من اعتنائكم..



Share To: