مزيد من الكشف:
القبول بالأمر الواقع سمة العامة والدهماء الذين لا يستشعرون الخطر المحدق بهم نتيجة للجهل أو الوعي المزيف، بالتالي ليس لديهم مقومات استشراف المستقبل، وقد كان لديهم من المؤشرات والدلائل ما ينبيء بحقيقة نابليون وعساكره ولكن قراءة ما سيقود إليه وجود محتل تحتاج إلى الإحاطة بمجمل الوضع العام فلا يغرنهم قشرة لامعة (إن بدا لهم لمعان ما) تخفي صدأ الحديد، وهذا يعد من قبيل المبالغة في التعبير لأن الأمور واضحة لهم وضوح الشمس ولكنه الخوف من بطش المحتل وسطوته بقوة العلم وجيشه المسلح، وأن سعيه إلى التقرب إليهم ليس من قبيل حسن النية بقدر ما هو طمس للحقيقة، لتجنب مقاومتهم ويتفرغوا لتحقيق الهدف الذين حلوا من بلادهم من أجله، لم يكن نابليون ليشذ عن توصيات المستشرقين الذين سبقوه إلى بلادنا ويعملون معه مستشارين، فإظهاره حب الإسلام والقرآن والاحتفال بالمناسبات الدينية التي تخص المسلمين بل حتى الأعياد الفرعونية لا لشيء إلا ليحظى بالطابور الخامس بين المسلمين ليسهلوا عليه مهامه.
فها هو يحتفل معهم بعيد وفاء النيل وقت الفيضان فقامت صحيفة لو "كارييه دو لوجيبت" وهي الصحيفة الناطقة باسم الجيش بوصف الحدث كالتالي (كما ذكر هنري لورانس):
"في الساعة السادسة صباحا حضر إلى المقياس القائد العام، يرافقه جميع الجنرالات وأركان حرب الجيش وكتخدا الباشا والديوان والقاضي وأغا الانكشارية، وقد اعتلى جمع غفير من الناس جميع الكثبان المتاخمة للنيل والقناة، وشكل كل الأسطول الصغير المزين بالأعلام وجزء من الحامية المسلحة مشهدا بالغ العظمة وبالغ الجلال والحسن، وجرى استقبال وصول الموكب إلى المقياس بإطلاق عدة طلقات من المدافع، وعزفت الموسيقى الفرنسية والعربية عدة ألحان خلال عملية فتح السد، وبعد ذلك مباشرة عبر النيل السد وتدفق كسيل في القناة التي ينقل عبرها الخصوبة إلى ريف القاهرة، ونثر الجنرال عدة آلاف من الميدينات (عملات نقدية) على الناس، ثم عاد الموكب إلى ساحة الأزبكية، يتبعه جمع غفير من الناس الذين يتغنون بمدح النبي والجيش الفرنسي، لاعنين البكوات (المماليك) وطغيانهم، وقيل بلى لقد جئتم من أجل إنقاذنا بإذن الله الرحمن الرحيم، فقد حالفكم النصر وجاء أجمل فيضان للنيل منذ قرون، وهاتان نعمتان لا يقدر على الإنعام بهما سوى الله وحده"
ولكن الجبرتي كانت له عين مختلفة وصف بها الحدث، وبالقطع هي أصدق من صحيفة المحتل
"مما لا مراء فيه أن الفرنسيين مراءون حين يطلبون من الناس التنزه والاستمتاع في الوقت الذي يزيدون فيه الضرائب والإتاوات على سكان القاهرة، ثم إنه فيما عدا القليل من البطالين (الحرافيش ومن لا عمل لهم الذين يهرعون خلف كل بوق) لم يشارك في الأفراح النهارية والليلية غير الإفرنج والأقباط والنصارى الشوام"
أما عن هزيمة جيش نابليون أمام الجيش الانجليزي فإنه يحظر على المصريين التحدث أو الإشارة إلى هذا الأمر وإلا تعرض لدفع غرامة فادحة.
في أعقاب الاحتفال بعيد وفاء النيل حل المولد النبوي وأعلن كبار الشيوخ أنهم لن يحتفلوا به هذا العام لأنهم لا طاقة لهم بتكلفة الاحتفال، فلما علم نابليون بذلك وتعزيزا لصورته كمحب للإسلام أعطي للشيخ البكري المبالغ الضرورية للمصابيح والمشاعل والفوانيس، يستمر الاحتفال عدة أيام ويدهش الفرنسيون لعروض البهلونات القصيرة والرقصات المنتشية التي يقوم بها أفراد الطرق الصوفية (المرضي عنهم دائما في الداخل والخارج) وهذه الموسيقى الغرائبية العجيبة.
ولم ينسى الجيش المشاركة باستعراضات عسكرية وبحفلات موسيقية وألعاب نارية، وفي دار الشيخ البكري يتم تنصيبه نقيبا للأشراف خلفا لعمر مكرم الذي لحق بإبراهيم بك بسوريا، ثم يصف لورانس معاناة الفرنسيين الذين اضطروا للأكل من المأدبة المعدة لهم بدار الشيخ بأيديهم أصنافا متبلة تعافها نفوسهم.
لم يترك المحتل فرصة إلا واغتنمها، حتى المحمل، تلك القافلة التي تحمل كسوة الكعبة تحمل نفقاتها نابليون وجيشه.
وأمر الحاكم العسكري بطبع منشور يصف الاحتفال بالعيدين (وفاء النيل والمولد النبوي) تحت عنايته والذي أمر بتوزيعه على مصر والبلدان المجاورة، ثم يستطرد واحد من قادة
"الحملة العلمية الداعية للإخاء والمساواة والحرية!!!!!" ليقول:
" إننا نخدع المصريين بتعلقنا الصوري بديانتهم التي لا يؤمن بها بونابارت ولا نحن بأكثر من إيمانه أو إيماننا بديانة البابا الكاثوليكي، إلا إنه ومهما كان رأي المرء في ذلك، فإن ذلك البلد سوف يصبح بالنسبة لفرنسا بلدا لا يقدر بثمن، وقبل أن يفيق هذا الشعب الجاهل من غيبوبته، سوف يتاح الوقت لجميع الكولون لتدبير شئونهم، إننا نحل هنا محل مجرمين لم يتركوا للشعب غير ما يستر العورة، وسوف يشهد أيضا تغيرا عظيما حين نجعلهم يسهمون بشكل موحد، والحال أن فظاظة السكان تأخذ بالفعل في التحول إلى لطف، وتبدوا رقتنا بالنسبة لهم غير عادية، وشيئا فشيئا سوف نجعلهم أقل فظاظة، وإن كنا سوف نضطر إلى كبحهم في ظل نظام قاسي حتى نبث قدرا من الخوف الضروري في نفوسهم، فمن شأن ضرورة معاقبة أحدهم من آن لآخر أن تبقيهم عند الحد الذي يجب عليهم عدم تجاوزه"
إنه فكر المحتل دائما وأبدا في كل زمان ومكان، دائما أنت محاصر بين قوسين لا يمكن تجاوزهما وسقف لا يمكن أن تعلو عليه.
إنشاء المجمع العلمي في 22/8/1798
الآن يطلون برؤوسهم، العلماء الذين قدموا مع نابليون وكانوا حتى ذلك التاريخ متمركزين بالإسكندرية ورشيد، وقد عانوا أكثر من الجيش البري في بلاد لم يألفوا طبيعتها المناخية، فعين في هذا المعهد ست وثلاثين عضوا وهم أهم شخصيات العلوم والفنون.
ينقسم إلى رياضيات، وفيزياء، وآداب وفنون، واقتصاد سياسي، وبه اثني عشر عضوا بصفة أساسية، يجتمعون كل عشرة أيام، ويمنح كل عام جائزتين عن موضوع يتصل بالحضارة المصرية وأخرى عن تقدم الصناعة، كما تم إصدار صحيفة عن المعهد تعنى وتنقل جديده أولا بأول، ويهدف هذا المجمع إلى:
ترقية ونشر الأنوار في مصر.
بحث ودراسة ونشر المعلومات ذات الأهمية الصناعية والطبيعية والتاريخية عن مصر.
إبداء رأيه حول مختلف القضايا التي تستشيره فيها الحكومة.
ومع إصدار العدد الأول من صحيفة المجمع اختتم رئيس التحرير مقاله قائلا:
"إن أوروبا المثقفة لا يمكنها أن تنظر بلا مبالاة إلى قوة العلوم المطبقة على بلد أعادتها إليه الحكمة المسلحة وحب الإنسانية، بعد أن نفتها منه لزمن طويل روح البربرية والهوس الديني"
بالطبع هذا المحتل له مطلق الحرية أن يكتب ما يشاء وقتما يشاء ولم يجد من يعيد إليه صوابه، لا في وجوده ولا بعد أن رحل عن بلادنا.
فالتيه الجهل والظلام الذي غرق فيه المسلمون بعد أن انقطت الصلة بينهم وبين مجد مازال غضا في الأذهان، وبعد أن سرق تراثهم العلمي في الأندلس وأثناء الحروب الصليبية، فتوقفوا عن مواصلة التجريب الذي ابتدعه سلفهم كما قال المستشرق الانجليزي لين بول والباحث الانجليزي روبرت بريفولت في كتابه الشهير صناعة الإنسانية:
"إن روجر بيكون درس اللغة العربية والعِلم العربي في مدرسة أكسفورد على يد خلفاء معلمي العرب المسلمين في أسبانيا، وليس لروجر بيكون ولا لسميه الذي جاء بعده الحق في أن يُنسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبي، فلم يكن روجر بيكون إلا رسولا من رسل العلم والمنهج الإسلامي التجريبي إلى أوروبا المسيحية"
أما فنون الفروسية واللباقة وجزالة اللفظ والمعنى واحترام المرأة (إن كانوا يحترمونها حقا، وهذا يحتاج إلى مبحث منفصل) والحموم والنظافة وغيرها مما يحفظ آدمية ورقي الإنسان لهي ميراث إسلامي بحت (ويسأل عن ذلك جوستاف لوبون وزغريد هونكة)، وذلك يرجع إلى الدين نفسه الذي عني بهذه التفاصيل، بل إن العبادات التي يؤديها المسلم لا تقبل إلا بطهور ونظافة.
أما نعت جيشهم بالحكمة المسلحة وحب الإنسانية لهو الإفك المبين، هل غاب عنه ما فعلوه في مصر والجنون الشامل في الجزائر وسرقة الكهرباء من مالي، وغيرها وغيرها ما لا يمكن وصفه سوى بالحقد الدفين.
أما روح البربرية والهوس الديني الذي تحدث عنهما، إن كان يرى في الإسلام بربرية وهوس ديني فبماذا يسمي محاكم التفتيش في أوروبا بعامة والأندلس خاصة، ومخازي الحروب الصليبية؟ وغيرها وغيرها مما يضيق المقام عن ذكره.
وللحديث بقية إن شاء الله
Post A Comment: