د. كاميليا عبد الفتاح
يؤكدُ لنا تاريخَ الإبداعِ الإنسانيّ أنّ ارتكازهُ على الفكر الأسطوريّ – أو بعض ملامحه – ينبعُ من عدّة عوامل ، على رأسها استعصاءُ الواقعِ – الفردي أو الجمعيّ – على التفسيرِ أو الاحتمالِ أو المواجهةِ ؛ حيثُ يصبحُ الأسطوري هو السبيل الملائم لمواجهةِ لا معقولية هذا الواقع .
ونحنُ أمام قصيدةٍ ترتكزُ على المبدأ الأساسيّ للفكر الأسطوريّ ، وهو امتلاك قوى الخلاصِ طاقاتٍ هائلةٍ غامضةٍ – مادية أو معنوية – تُجدّدُ الحياةَ ، وتحرضُ على انبعاثها في كلّ ما حولها من الذواتِ والكائناتِ ومفردات الوجود ، دونَ سببيةٍ منطقيةٍ واضحةٍ . من جهةٍ أخرى يتصفُ الواقعُ الفردي – والجمعيّ – في هذه القصيدة بتجاوز حدود المعقول والمنطق بما يحمل من طاقاتٍ استلابيةٍ ، وآفاقٍ معتمةٍ تبثُ في الذوات الإنسانية مشاعر اليأس والهمودِ ، وصولًا إلى مصاف الموت.
يُطالِعُنا العجزُ عن احتمال الواقعِ في عنوان القصيدة – وهو أوّلُ عتباتِها - " ياااااونتي يا صرم حالي " ، مُجسِّدًا حال ذاتٍ إنسانيةٍ تُطلقُ صيحةَ جزعٍ وحسرةٍ على راهنها المعتم وآمالها الموءودة . ويطالِعُنا الإهداءُ – وهو العتبةُ الثانيةُ – بدلالةٍ غيرِ مُتوقَّعةٍ ؛ حيثُ يُهدي الشاعرُ قصيدته إلى صباحِ يومِ مولده ، بما قد يتعارضُ - ظاهريًّا - مع المُعطيات الدلالية للعنوان . لكنَّ هذا التعارضَ الظاهريّ يتلاشى ، مع قراءة القصيدةِ ، وتلقّي ما تطرحهُ من رؤىً وظلالٍ نفسيةٍ روحية .
يُدركُ المتلقِّي – منذ بدءِ القصيدةِ – أنه أمام تجربةٍ إنسانيةٍ ذات أجواءٍ روحيةٍ تتسمُ بالعنفوان ؛ حيثُ يستهلُّ الشاعرُ قصيدته بتدفّقٍ ابتهاليٍ يحملُ رجاءه في استعادة قوى الحياة . يقول الشاعر :
" رُدُّوا صباح ( الأربعاءِ ) عليّ
رُدُّوا ( وَردَ منتصفِ الربيعِ ) عليَّ
رُدُّوا صرختي الأولى
و( رُدُّوني ) عليَّ
فقد أحاطَ بمهجتي
الصمتُ الكسيحُ
وأزَّني القلقُ الفسيحُ
وهدّني الوجعُ الجريحُ
وهاااااهو الشجنُ المُعربِدُ في دمي
يمتدُّ من أقصى إلى أقصى احتمالي ..
*** "
في هذا الطرحِ الابتهاليّ أبرزَ لنا الشاعرُ ما افتقدهُ – وهو عينُ ما يرتجيه - ماثلًا في : صباح الأربعاء ( يوم مولِده ) ، وَرد منتصف الربيع ، صرخة الميلاد الأولى ، ذاته ( ردّوني عليّ ) . وإذا أحصينا عددَ هذه الأمنيات وجدناها أربع أمنياتٍ ، و هو عدد مرات تكرار حرف المدّ ( الألف ) في موضعين ، قول الشاعر : هاااااهو الشجنُ . وقوله – يا ااااونتي يا صرم حالي ؛ بما يدفعُني إلى افتراض أن هذه الأمنيات الأربع هي مكمنُ شجنه ، ودواعي حسرته في الوقتِ ذاته .
وقد اضطّلع الطرحُ الابتهاليّ بإبرازِ الجانب الدراميّ في هذه التجربة الشعرية ماثلًا بين : مقوّمات الحياة ماثلة في : يومِ الميلادِ ، ورد منتصف الربيع ، صرخة الميلاد ، الذات . والقوى المُهدّدة لهذه المقوّمات - ماثلة في الصمت الكسيح ، القلق الفسيح ، الوجع الجريح ، الشجن المعربد .
· ينتقلُ الشاعرُ إلى المرحلةٍ الثانية ، وهي مرحلة الكشفِ عن هويّة الخطر الذي يتربّصُ بذاته الإنسانية ، وينتزعُ منها الشعورَ بالحياةِ ، ويذيقُها مرارتِ - ما سبقتْ الإشارة إليه - ويبرزُ اليتمُ باعتبارهِ الخطرَ الحقيقيّ ؛ بما يُبرّرُ ارتكاز الشاعر على أسلوب الالتفاتِ - في مواجهته - منتقلا من ضمير المخاطب إلى ضمير الغائب ؛ بما عبَّر عن مدى عجزه عن هذه المواجهةِ . يقولُ :
يا أيها (اليُتم) الذي
تركته {أمي} بين أضلاعي
يؤثّث (جهوة)(1) الأحزان
يسقي (لوز) سطوته بدمعي
يقرأ التوراة
والأنجيل
والقرآن
في (شبّاك) حرماني
وينثرني خريفا من خرافات الدّجى القاني
على قمم الجبال .."
استطاعَ الشاعرُ أن يبرزَ ( اليُتمَ ) في هيئةٍ تتسمُ بالعنفوانِ والقوةِ ، من خلالِ مناداته بأداة النداء – يا – وإيحائها بطول المدى الزمني لهذا اليتمِ ، وكذلك استيقاف هذا اليتم في " أيُّها " ، وما منحته من تشخيصٍ يبرزُ اليتمَ في صورةِ كيانٍ ماديٍ مُعادٍ لذات الشاعر ، لا مجرّد شعورٍ أليمٍ .
كذلك اضطّلعت الصور الشعريةُ في الإيحاء بهذه الدلالة ؛ حيثُ تمّ إسنادُ الأفعالِ – في هذه الصور – لليتمِ ، مقابلَ إبراز الذات الإنسانية للشاعر في هيئةٍ مُتشيّئةٍ مُتشظّيةٍ ؛ فاليتمُ : " يؤثثُ جهوةَ الأحزانِ – بين أضلاع الشاعر - يسقي لوزَ سطوته - بدموعِ الشاعر – يقرأُ القرآن والإنجيل والتوراةَ – في شباك حرمان الشاعر – ينثرُ – ذات الشاعرِ – خريفًا " ونتوقفُ عند الصورة الشعرية الأخيرة في وصف الشاعر لفعلِ اليتمِ به ، وهي قولُه :
" وينثرني خريفا من خرافات الدّجى القاني
على قمم الجبال .."
تستدعي هذه الصورةُ - إلى ذاكرتنا - تلك الصورة التي طرحها الشاعرُ- في المرحلة الابتهالية للقصيدة – وطرح فيها رجاءه استعادة ذاته - وهي قوله " رُدُّوني عليَّ ..." - بما يمنحُ التلقّي النقدي للقصيدة رؤيةً تبرزُ فيها ذاتُ الشاعر كيانًا مُتشظِّيًا بفعل قوى اليتمِ ، وبما يبرزُ الصورة الشعرية – في هذه القصيدة - عنصرًا فنيًّا قادرًا على إبراز التوالي العضوي بين مراحلها ، وقادرًا على كشفِ أطراف الصراع فيها .
· تنتقلُ التجربةُ الشعريةُ - انتقالًا عضويًّا سَلِسًّا – إلى مرحلتِها الثالثة التي أُطلقُ عليها مرحلة " النزوعِ إلى الخلاصِ " ، حيثُ يقولُ الشاعرُ مخاطبًا يُتْمَهُ :
" قل للبلابل
تكتب اللحنَ الذي
( بَدَعتهُ ) أمي في (عِتام)
ووزّعته على (النفود)
و (ربعنا الخالي)
وأجفان الليالي ..
:
ياااااونتي ياااااونتي
يا سمّ حالي .."
هو صوتها هذا الذي عبر المدار
و رنّم الأفلاك بالشجن المصفّى
في رموش الريح
و ارتجزت به مُهج التلالِ ..
***
لقد اعتمدُ الشاعرُ - في طرح نزوعه إلى الخلاصِ -على أسلوب المفارقة الكامن بين هذه الثنائيّات الضدية :
- المفارقة الكامنة في استعادةِ قوى الحياةِ من خلالِ الطاقاتِ الروحيّة لذاتٍ مائتةٍ ( هي ذاتُ الأم الراحلة ) .
- الضدية بين اليتمِ (بما يمنحُ من مناخاتِ حزنٍ ) والبلابل ( بما تمنحُ من مناخات بهجةٍ ).
كما أبرزُ الشاعرُ – في هذه المرحلة من القصيدة – هويَّة العنوانِ الذي اختاره لقصيدته (ياااااونتي ياااااونتي / يا سمّ حالي .." ) وذلك حين أسندهُ إلى روح الأم باعتباره لحنًا بدعتهُ وارتجلتُه .
ويكتسي لحنُ الأمِ - في هذا الطرح - بملامح أسطورية ؛ حيثُ يبدو من خلال الصورةِ الشعريةِ وقد بسطَ سطوته - وأثرهُ - على مفردات الزمانِ والمكانِ ، عبرَ رحلتين : الأولى : منطلقًا من وادي العتامِ – حيثُ كان احتطابُ الأمّ – إلى صحراء النفوذ ، الربع الخالي ، أجفانِ الليالي . والثانية : منتقلًا عبرَ صوت البلابلِ – التي استنفرها الشاعرُ - إلى : المدار ، الأفلاك ، الريح ، مُهجِ التّلالِ " .
و يبرزُ " الليلُ " – في هذه الصور الشعريةِ - نقطةَ التقاءٍ زمنيٍ بين الشاعر ، وروحِ الأمّ . نصلُ إلى هذه النتيجةِ النقديةِ من خلال مطالعةِ هاتين الصورتين :
الأولى : " وينثُرُني ( اليتمُ ) خريفا من خرافات الدّجى القاني "
الثانية : ويخصّ لحن الأم الذي " وزّعته على أجفان الليالي .."
في الوقتِ ذاته يبدو لحنُ الأمِّ هو المسارُ الذي يطرحهُ الليلُ لنجاةِ الشاعر من مشاعر اليُتم ، واستعادة الذات والإحساس بالوجود ، كما سيتضح لنا من خلال المضي في تحليل مراحل هذه التجربة الشعرية .
· ينبثقُ الفعلُ الأسطوريّ – وهو عنوانُ المرحلةِ الرابعةِ – من لحنِ الأمِّ الذي " ارتجزتْ به مُهجُ التلالِ " – في نهاية المرحلة السابقةِ من التجربة – يبدو هذا اللحنُ وكأنّهُ تأويبٌ مفردات الزمان والمكانِ – التي أشرنا إليها من قبل – ولذلك يصدرُ هذا اللحنُ - في مرحلة الفعل الأسطوريّ - غير مُسندٍ إلى منشدٍ بعينه . يقولُ الشاعرُ:
" يا اااونتي :
و تئنُّ كل الأرض
تنتفض النجوم
وسقف قلبي يُسقط الشمس
التي شرقت بدمعي
في سؤالي ..
يا ونتي يااااونتي يا صرم حالي..
***
نلاحظُ تكرار حرف المدّ – الألف – ثلاث مراتٍ في الجملة المركزية للحن - يا اااونتي " - التي تأتي في مقدمة هذا الجزء من القصيدة - و تتردد في نهايته - ونلاحظُ – في الوقتِ ذاته – تأثّر ثلاث كياناتٍ بما في هذه الجملة من طاقاتٍ روحية ، وهي : كلّ الأرض ، النجوم ، قلب الشاعر ( الذي يُسقطُ الشمس ) ، بما يبرزُ ما في هذا اللحنُ من قوى إيجابيةٍ مؤثّرةٍ .
وتتصدّرُ هذه الجملةُ المركزية المرحلةَ التالية ، وأُسمّيها " مرحلة الانبعاث الأسطوري " . ويبدو تدفقُ القصائدِ أول مظهرٍ من مظاهر هذا الانبعاثِ ، كما تتماهى ذاتُ الشاعر و روح الأم – عبر لحنها – وتتخذُ الأمُ من حنجرة الشاعر موقعًا تُطلقُ منهُ هذا اللحنَ حتى يصبحَ صوتُها صوتَه . يقول حسن الزهراني :
يا ونتي :
وتفيض روحي بالقصائد
فوق (رَعْشٍ) في شمال البيت
باااالي ..
***
و تظلّ أمي
صوتي الموتور
من أبواب حنجرتي
إلى أفاق سمعي
هاجسي المكنون
نكهة هيل قافيتي
و صفرة زفرتي الحرّى
على قلق (الدِّلالِ)..
يا ونتي ياااااونتي
ياااااصرم حالي ..
***
يتواصلُ فعل التماهي بين كيان الشاعر وروح الأم في المرحلة الجديدة ، حاملًا معه إرهاصات الخلاصِ ماثلةً في تغيّر دالة الزمانِ - من ظلمة الدجى إلى إشراقة الضُّحى – وانصياع المسافات - الميتافيزيقيّة - لفعل التماهي يقول الشاعر :
يمتدّ وجدٌ بيننا
رغم امتداد البعد يا أمي
ويصبح نهر شجوٍ حارقٍ الأنفاس
يمنحه الضحى
لوناً جحيميا
يموسق حزنه الأشهى
على شفة الزوال ..
يا ونتي يا ونتي يا سَمّ حالي ..
***
يطرحُ الشاعرُ رؤى الخلاصِ في رسالةٍ تُرسلُها روحُ الأمِ التي تسكنُ صوتَه ، وتتلقى الذواتُ الإنسانيةُ – وقوى الكونِ – هذه الرسالة عبر هذا التَّماهي الإنسانيّ الفريد الذي تبدو فيه الأمُّ وقد اكتست – بطاقاتِها ونايِها وحكمتها - ملامحَ أُورفيوس وهي يعزفُ نايه منشدًا لحنَ الحياة . يقول الشاعرُ :
وتقول أمي
وهي في فردوسها
الأبديّ في جنات روحي :
قل لكل الميتين على أديم الأرض:
قوموا من سبات الوهم
ردّوا للحياة الموت
فالموت الحياة الآن
قد آآآن الأوان
إذا رغبتم أن يدوّنكم شعاع العزّ
في شمم المعالي ..
***
و تعود تتلو للقلوب (الغُلفِ)
آيات الحصاد
بناي حكمتها
وعفّتها
ولوعتها
وتُقسم للضياء وللإباء
بأن من يرضى بهذا الذلّ
هُم مأساة هذا العصر
أشباه الرجال .. "
يبدو مفهومُ الموتِ هو جوهرُ هذه الرسالةِ - و مغزاها الأساسيُّ - لكنَّ دلالة الموتِ – في هذه الرؤية – شديدةُ التعقيدِ والعمقِ ؛ لأنَّ الشاعرَ طرحَها عبرَ عدّةِ صورٍ شعريةٍ ترتكزُ على الثنائياتٍ الضديّةٍ ، والمفارقة . من ذلك :
- موتُ الأحياءِ على أديمِ الأرضِ .
- المطالبة بـ ( إحياءِ ) الموت .
- وسم الموتِ بسمة الحياة .
وتضطلعُ مفرداتُ معجم الشاعر – في هذه المرحلة من القصيدة – بإلقاء الضوء على دلالة الموت ، من هذه المفردات : " العزّ ، المعالي ، الوهم ، أشباه الرجال ، العزّ ، هذا العصر ، القلوب الغُلف ..." . تحملُ هذه المفرداتُ ظلالًا دلاليًّةَ ترتبطُ بواجبِ – ومسؤوليةِ – الذاتِ الفردية تجاه الذَّات الجمعية ، وما تستوجبُهُ هذه المسؤوليةُ من الفداء والتّضحيةِ حدَّ الشهادةِ التي تبرزُ- في منظور عقيدتنا الإسلاميةِ – وفي رؤية الشاعر النابعة من هذا المنظورِ - عينَ الحياةِ ، أو حياةً أبديَّةً ؛ وبذلك يتضحُ معنى الحياةِ - الكامن في شمم المعالي – ومعنى الموتِ الكامن في ذلّ أشباه الرجال .
تصلُ التجربةُ الإنسانيةُ – في هذه القصيدة – إلى مرحلتها الأخيرةِ وهي مرحلة الخلاص ، وهي أقربُ إلى أن تكون مرحلة مخاض ، يستعيدُ فيها الشاعرُ صوتَه الحبيسَ ؛ فيمضي في ترتيلِ لحن الأمِ ، تتبعهُ الكائناتُ . . يقول :
وأنا أرتّل (وِردها) القدسيّ
تتبعني قلوب لكائنات
بصوتها الأزلي
يرتدّ الصدى :
يا ونتي ياااااونتي يا صرم حالي ..
*****
لقد أضفى الشاعرُ على هذه المرحلة من التجربة كثيرًا من الإيحاءات الميتافيزيقية ؛ فقد وصف لحنَ الأمّ بـ " الوِرد القُدسيّ " ، ووصف فعل إنشاده بأنه " ترتيل " ، كما أمعنَ في إضفاء هذا الطابع الميتافيزيقيّ من خلال إسناد الصوت " الأزليّ " للكائنات " . وقد ساهمَ هذا الطابعُ بإبرازِ روح الأمّ في هيئة ذاتٍ كونيةٍ رائيةٍ بما تمتلكُ من نقاءٍ فطريٍ وطُهرٍ وصفاءٍ أمكنها من التغلّب على سجف المادة ، وحواجز الموتِ فاجتازت هذه البواباتِ لتكونَ مسارًا لخلاصِ الذات الفردية – الماثلة في الشاعر – وإيذانًا بخلاص الذات الجمعية . كما بدتْ روحُ الأمّ وكأنّها تمتلكُ طاقاتٍ ( عشتاريّة ) أو ( فينيقيّة ) تُمكّنها من تحريض الكائنات على الحياة .
لا أستطيعُ أن أختمَ هذه الرؤية النقدية دونَ أن أبرزَ الرؤية الشعرية التي دارت حول رسالةِ الشاعرِ – في هذا الطرح – فقد برزتْ ذاتُ الشاعر وسيطًا بين روح الأم - بطاقاتها الفائقة – وجميع الذوات الإنسانية والكائنات ومفردات الكونِ . نطالعُ هذه الرؤية في كثيرٍ من الصور الشعرية الموحية ، من أكثرها دلالةً ، قولُه :
" وتقول أمي ... قل لكل الميتين على أديم الأرض" ،
وقولُه : " وأنا أرتّل (وِردها) القدسيّ / تتبعني قلوب الكائنات "
تدفعنا هذه الرؤيةُ إلى أختم هذا التحليل النقدي – بما بدأتُ به – وهو الإشارةُ إلى وجود علاقةِ بين لا معقولية الواقعِ ، وبين ارتكاز الإبداعِ – والفنّ عامةً – على الأسطوري – سواء من خلال التوظيف المباشر للأسطورةِ أو الانطلاق من مبادئ هذا الفكر – وأستعيرُ رأي د. محمد عبد الرحمن يونس– في كتابه مقاربات في مفهوم الأسطورة : " إنَّ التاريخَ والميثولوجيا والواقعَ كلها مكوناتٌ للفكرِ الأسطوريّ ؛ فالواقعُ العربيّ اليومَ يتعقيدهِ وغرائبيتِه و... لهو أغربُ من الأسطورةِ . إنهُ الخرافةُ بعينها " .
وأتساءلُ مع المتلقّي في النهايةِ :
ما الذي سعى الشاعرُ إلى استعادته عبرَ استحضار روح الأمّ ، وصوتها ، ولحنها ؟
هل كانت ابتهالاتُه الضارعةُ لاستعادة يوم ميلاده ، أم لاستعادة الإحساس بكيان هذه الأم ؟ هل ابتهلَ لاستعادة صوته – من الصمت الكسيح – أم استعادة قصيده ، أم أراد الخلاصَ لذاته – ولأمّته – وللذات الإنسانية – واستعادة قوى الحياةِ من أنيابِ راهنٍ خربٍ ؟!
Post A Comment: