انجزت في العهد السابق 9/نيسان/ 2002
ضمن مجموعة ( فناءات قزحية ) عام 2003
كان زواجنا عرساً في كل ليلة. وسفراً إلى معالم مجهولة . كنت أرفد خيالها بمعالم لم تسمع بها ولم تشاهدها ، من مدن مجهولة . و أسماء لم تألفها . و المحبون الغرباء ، و الغابات التي ظلّت بها ساندريلاّ طريقها .
أقرأ لها بصوت رخيم و أُغني . كأني أنزف دم قلبي ، مثل عصفور ذبيح .كانت تنشدّ بشغف إلى فمي . منبهرة بحكاياتي. فأستحوذ على قلبها وأنطلق بها ، عبر حكايات ألف ليلة و ليلة .
كانت تتألّق عبر غنائي و حكاياتي . انغمرنا بكاملنا في أُمسيات سهلة ، لذيذة. اختطفنا ثمارها مقدمـــــــاً.
واقتنعنا : أن ذلك يجعلنا مُطمئنين أن نحيى بسلام . هنيئاً لي على بحبوحتي وآلامها ...
آ..... ه.
في تلك الليالي .. كنت قد صوّرت نفسي بطلاً. هيّأت نفسي أن أغريها بالسفر بين النجوم في عربة سندريلا . أصنعها بجهدي ، من أصداف المحار و العسجد و الفيروز. ينطلق بها حصان مجنّح فتستلقي مثقلة الجفون ، تنغمر في ذلك الخيال ، في رحلات سندبادية، و أُحلّق معها و أُغني . كم كان استلقاؤها رائعاً، و يداها تحت رأسها ، كم كان يغريني أن أُغني ؟كم كانت تلك الابتسامة مُكتظة بالخيال و الأحلام الوردية ؟ وا خيبتاه ...
ما الفائدة؟ في ذلك اليوم .. كنت ملزما أن التحق بوحدتي . كان يوماً ثقيلاً. أثقل قلبي بالحزن . همّه افتراقي عن حوريّتي ، و جنينتي ، وابني . من أين لي أن أعلم بفراقي الأبدي ؟؟
آنذاك .. قرفصت باكية حزينة ، تهدم حنايا صدري ، ووليد الجميل يستلقي أمامها لا يحس بالمصائب . ولم تكن مقتنعة : إنني قادر على ملْء قلبها بالسكينة و الأمان .
سهرنا تلك الليلة . كان الأرق سيّدها . لم تقدر أن تستقر إلى إغفاءة . فقضت هي ليلها مسهدة . كأنها ..لا تريد أن تفرّط بلحظة واحدة . كأنها تعرف مآل المصير . و كان وليــــــــد الجميل يستلقي بسلام ووداعة .
لا يدري جسامة المصائب . كان السلام يستقر في محيّاه. لا نــــــار ولا دخــــــــان . نور الصباح ينعكس على صفـــــاء و جنتيه و شفتيه . فنام بنفس هادئة . كان النوم .. مثل أُم رؤوم ، احتواه بين أحضانه وأغرقه بمواساته .
فــــي تلك الليلة ، قبّلته و هو غارق في أحلامه . كــــــم كان جميلاً؟ كانت الأشياء الجميلة التي وفّرتها له ، قد حفلت فيها الغرفة .
دمى و درّاجة صغيرة و ( خراخيش ). و أشياء بألوان جذّابة. أدوات موسيقية ، صور .. ترمز إلى أطفال جنّة يحومون حول أُم . لوحات مدهشة لغابات مليئة بالحيوانات و الطيور و الفراشات الجميلة . و زوارق بلّورية .
كنت مسحوراً بمثل هذه الأشياء . كنت أحلم أنا نفسي : أن يعيش ولدي ، و من يمكن أن تنجبهم زوجتي بأجواء جذّابة كهذه . لكن البهجة غاضت في تلك الليلة.أمست تلك الأشياء لا معنى لها . كأنها مستقبل كاذب . و إنني قد أفرطت بصناعته . بل واعتقدت إنني أفسدت على زوجتي رؤية واقع الحال بشكل أوضح . لكي لا تكون المفاجئات مؤذية.
يا لها من خســـــارة .................... كُتِبَ عليك أيها القلب المنكود ، و على وليد .. أن تعودا خائبين . لم أستطع أن أُوفر لكما ما يُسعدكما ، سوى نصيحة قد لا تروق لها . لكن .. عليها أن تتجرع مرارتها .. ..فمثلها.. ليس بوسعها أن تنتظر ثمار المستحيل . فانا لا عودة لي قطعاً. إن هذا ليس بمشيئتي . وليس بوسع قلب واحد ، أن يتحمّل آلام جسدين . بل يصعب على قلبين أن يتحمّلا آلام جسد واحد . فما دامت هي شابة في ذروة جمالها و حيويتها ، فإنني أنصح بما حلله الله أن لا تنتظر عودة من مات . إن الوفاء لحياتنا تلك ، تستلزم تضحية من نوع آخر: أن لا تعيش امرأة وحيدة . كل ما أوصي به : أن تعتني بولدي... كي يحمل اسمي. أما هي فعليها ، أن لا تظلم نفسها . بكلمة واحــــــــدة: أن تتزوّج .
* * *
لكنـــــه لاحظ.. أن الرئتين انكمشتا كالإسفنجة ، و إن القلب ذبل . وإن عيني وليد تذرفان الدمع ..و يكاد أن يتفتت كبده من البكـــــاء .
قال الأب :
ـــ حســـناً .. حســـنأً . لقد قلت ما كان يؤرقُني . كنت أعتبره قيداً يغلُ عُنُقي . الآن .. قلت ما ينبغي أن أقوله لكي يهدأ ضميري . و ما تبقى إنما تقرره هي .كل ما قلته ، لكي لا تُقتَل يوميّاً عدة مرات .الحياة ما عادت أليفة كالسابق .
إذن .. فلتتهيّئا و ترحلا سأكون باستمرار قريباً منكما . تذكر يا وليد .. ليس لدي ما أصنعه سوى هذا . سوى ذوي كبدي و عصارة روحي .
تعال يا ولدي الجميل و قبِّل أباك. أنت ترى : إني أرقد في بحيرة من النور ودائما بجانبي أرواح هُيّئت للسلام . فالأشياء هنا مواسية . الشيء الذي يعوزني : أن تتهيّأ لكما حياة كريمة . و إني سأطوف عليكما بالأحلام .
تقدم وليد و قبّل وجه أبيه و قدميه و يديــــه .وذلك الفراغ الصــــــــــــــدري المحزن ، وقال :
ـــ لا تتأخر عنّا يا أبي .. إن بيتنا موحش .
قال الأب :
ـــ إني أود أن أراك رجلاً . أعطني وعداً أن تكون كذلك . فعندما لا تفي بوعدك، سأكون حزيناً. اقترب لكي أُثبّت جناحيك .
التصق القلب و الجناحين في موضعهما . نظر الأب إليهما بِابتسامة مواسية ، و تلمَسهما بيدين مُرتعشتين .، كأنهما تبكيان وقال :
ــ وداعــــاً ... الحياة .. يمكن أن تعتاداها .
كانت عينــــــــاه ، يجهدان أن يتماسكا . ظل جناحا و ليد يرفرفان بقرب وجــــه الأب .. روّحـــا له نســـــيماً فردوسياً يعبق برائحة الزوجة ، ثم ودّعاه وتلاشيا في هبوطهما نـــــحو الأرض .
Post A Comment: