فلاش باك [...........]قضى فيه إبراهيم ليلته حَبيسًا في القطار، يترجرج بين ذكريات الماضي ومشاكل الحاضر، نزل في المحطة الشرقية Paris Nord بقلب باريس عاصمة الديمقراطية، العاصمة التي تُحتَرَم فيها وفي غيرها من عواصم أوروبا حرياتُ الأفراد والجماعات، ويُعطَى فيها لكل شخص حقُّه في التعبير بما شاء، والتنقلِ حيث أراد. كانت الساعة تقترب من منتصف الليل، وجد نفسه شريدا يتجول وحيدا في شوارع المدينة، بين محطة القطار وأزقة مقاطعتها الأولى، حيث لا ينام الناس، يائسا، بائسا، لا يعرف ما يفعل ولا أي مكان يقصد، كأنّ الحياة أصبحت بلا معنى، وأن الدنيا بأسرها أظلمت في وجهه وتَضَيَّقتْ، ولم يَعُدْ له فيها مكان.
أصبحت فكرة الهجرة من المغرب إلى فرنسا تُثْقِل عليه تفكيره، وتَحَوّل حلمُه إلى كابوس مزعج، كانت مصدر ألَمٍ لنفسه وحزنٍ لقلبه، لم يسبق له أن ذاق مرارة تشبه مرارة هذه الليلة المُخزية، وقف واجِما لا يدري ما يصنع حتى يخرج من هذه المحنة، ولا يعرف كيف يفكر للتخطيط لمستقبل أفضل.
مدينة باريس، المدينة الفاضلة، الليل فيها لا يختلف عن النهار، ما زال الناس يأتون ويذهبون، يدخلون إلى الحانات ويخرجون، يرقصون على أرصفة الطرقات من شدة الثَّمَل، أو تحت تأثير المخدرات، عالَم آخر، تكثر فيه الملاهي الليلية، وتشْتَبِهُ فيه النساء بالرجال، والرجال بالنساء، يمشون زَرَافات، شباب وشابات، مُتحَوِّلون جنسيا يترقبون إشارة من أصحاب السيارات، ونساء مومِسات يفْعَلْن مِثلَهم أو يُمارِسْن البَغاء في أماكن هادئة أو عند زوايا الطرقات، الحركة ما زالت قائمة ومستمرة على مدى 24 ساعة. لم يسبق له أن رأى هذا العالم الغريب من قبل، ولا وجد نفسه في مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل، عدا تلك المرة التي سهر فيها على أنغام الموسيقى المغاربية مع جماعة من الأصدقاء الذين أرغموه على شرب الخمر لأول مرة في حياته.
مرة أخرى، وهو تائه في شوارع باريس، تذكر ذلك اليوم الذي خرج فيه بالليل صحبة أقرانه في مرحلة الطفولة، ليصطادوا طائر الليل ويبيعوه لصاحب دكان الأعشاب، طائرًا قيل إنه مطلوب كثيرا لدى المُمْتَهِنين للسحر والشعوذة. وتذكر خرجاتِه الليلية التي كان يذهب فيها إلى سينما الأندلس أو ملوية، لمشاهدة أفلام مُطوّلة تستغرق مدةُ عَرْضها على الشاشة البيضاء ساعتين أو ثلاثًا، أفلام أمريكية من نوع رُعاة البقر (الكوبوي)، التي كانت مثيرة وجذابة تدور حول الهجرة الداخلية للبحث عن كنز، أو عن شخص تَمّ خطفُه، أو للانتقام من قَتَلة، وأفلام أخرى تحكي عن هجرة الأوربيين إلى أمريكا نتيجة الصراعات السياسية والدينية التي عرفتها بعض البلدان الأوروبية، كإيرلندا وإنجلترا، هذا بالإضافة إلى تصويرها لذلك السباق الغربي السياسي والاقتصادي لِغَزوِ ما سمِّي بالعالم الجديد، بدعوى أنه خالٍ من السكان، وقد أدى إلى قتل وتشريد شعوب محلّية بأكملها، كالهنود الحمر مثلا.[.. .... ]
فرنسا 16/11/2020
Post A Comment: